الرسالة العربية الخالدة
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: مكتبة الحزب والجبهة
صفحة 1 من اصل 1
الرسالة العربية الخالدة
الباب الرابع من الجزء الاول في سبيل البعث
حول الرسالة العربية
الرسالة العربية
إيمان قبل كل شيء ولا يعيبها هذا او ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة هي ان
الايمان يسبق المعرفة الواضحة. وان من الاشياء ما هو بديهي لا يحتاج الى براهين
ودراسات، انه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة. فالرسالة شيء ملازم للأمة، ومن
حقها، أن تطمح الى بلوغها كما يحق لكل فرد ان يطمح الى المروءة والبطولة. ولكن في
الواقع ثمة فرقا هو ان الحق قد يبقى عند الكثيرين نظريا لا يتحقق في العمل، فمن حق
كل فرد ان يطمح الى البطولة -كما قلنا- ولكن كل الناس ليسوا ابطالا، فكل امة من
حقها أن تطمح في أن تكون لها رسالة، ولكن الامم ليست كلها على السواء ذات رسالات،
او ليست رسالاتها متساوية في درجة النضج وفي مدى التحقيق والشمول.
ان علينا ان نفرق بين
معنى الحياة وبين الرسالة فلكل فرد مهما صغر شأنه ومهما قلت مواهبه معنى لحياته،
ولكل أمة مهما ضاق نشاطها وقلت مواهبها معنى يستخرج من حياتها، غير ان هذا ليس هو
المقصود بالرسالة. فالبطولة عند الافراد ليست مجرد معنى الحياة انها الحد المعين
الذي يبلغه تكامل شخصية الفرد ونضجها وأشعاعها حتى تصل الى درجة التأثير والتوجيه
واثارة الاعجاب، وهي عند الامة أن تخرج من نطاق النشاط المادي والانانية الضيقة
وترتفع الى مستوى التوجيه الانساني والاشعاع على غيرها من الامم.
وشعار البعث العربي
لا يرمز الى أشياء مقبلة بعيدة عن الواقع، بل يهدف في الدرجة الاولى الى تلبية
حاجات الحاضر وضروراته، وهو يعني ان الامة العربية واحدة، فلا نعترف بهذه التجزئة
المصطنعة العارضة. واننا نسعى الى تحقيق هذه الوحدة ليس في الارض فحسب بل ايضا في
الروح والاتجاه.
اما الرسالة الخالدة فالقصد
منها ان هذه الامة لا تعترف بواقعها السيء وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها
الأصلية بين الأمم، بل تصر على انها لا تزال هي هي في جوهرها، تلك الامة التي بلغت
في أزمان متعددة مختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالنها، فهي اذن بصلتها ببعضها
وبماضيها لا تزال واحدة ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها
مؤقتا. فهذه الامة التي تستيقظ اليوم وتتحفز للنهوض ليست هي بنت اليوم، بل هي نفسها
قبل ألف وقبل ألوف السنين، ميزتها وحدة الاصل والعنصر يوم كانت الوحدة هي الرابط
المكينة التي تجمع الأفراد وتطبعهم بطابع واحد وتخلق فيهم نواة واحدة، ثم صقلتها
وغذتها وحدة اللغة والروح والتاريخ والثقافة، ولما فقد هذا العنصر مكانه الرئيسي
بين العوامل المكونة للأمم فقدت الأمة شيئا من تجانسها الضيق غير انها عوضت عنه
بتنوع في المواهب والكفاءات وانطلاق في الفكر وتسام في المعنى الانساني. فهذه الأمة
التي افصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة افصاحا متعددا متنوعا في تشريع حمورابي
وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف
الازمان ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف.
ولكن هل يستتبع
تبنينا لماضي الأمة واعتبارنا انه يؤلف وحدة حية مع حاضرها ومستقبلها، اننا نوافق
عليه وعلى كل ما جاء فيه؟ وهل حياة الامة مسيرة بقدر خارج عن ارادتنا، وان كل مرحلة
هي نتيجة حتمية للمراحل التي سبقتها؟ ام ان على الأمة ان تساهم الى حد بعيد في خلق
مصيرها فاذا انحرفت عنه وتلاشت مساهمتها في صنع قدرها، فانما ذلك لمرض طارئ تجب
معالجته. فهذا الماضي كان يمكن لبعضه ان يكون خلاف ما كان ولبعضه الآخر ان يكون
أقوى وأكمل مما كان! نحن سادة مصيرنا وصانعو قدرنا ندرك ادراكا عميقا ان الأمة
الحية هي التي تحيا الآن والتي ينفسح امامها مجال الحياة للمستقبل، وانها الامة
التي تخدم ماضيها باستخدامها اياه لا باستسلامها له، والأمة الحية تنمو وتتكامل
ويكون ماضيها مهما سما دون حاضرها ويكون مستقبلها أمامها لا وراءها.
وفكرة الرسالة تقود
حتما الى تكوين نظرة الى الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، فالاتجاه الشيوعي ينكر
كل ماض، بمعنى انه لا يقر بصلاح أي ماضي فهو يدعو الى بناء جديد من أساسه عند مختلف
الامم، وهناك اتجاه آخر ينكر الماضي عامة في مظاهره فقط وفي الواقع ينكر الماضي
العربي، وهذا الاتجاه هو الاتجاه المعجب بالغرب وحضارته، والذي يدعو الى اهمال
الماضي وتناسيه واخذ الحضارة الغربية بكليتها، فهو يعتقد أن فساد الحاضر في المجتمع
العربي ليس نتيجة انحراف ومرض أصاب الأمة، بل هو نتيجة منطقية لبذور من الفساد كانت
منذ البدء في حياة العرب،
او لامكانيات من الخطأ والانحراف تضخمت ونمت مع الزمن حتى وصلت الى هذا الحاضر،
وهناك اتجاه ثالث هو اتجاه
البعث العربي الذي لا يتعصب لنظرية معينة ولا يقول بالاخذ المصطنع، بل يعتبر حياة
الامة كجسم حي كان صحيحا ثم اعتل، ويعتبر ان التقدم يعني معالجة المرض والعودة
بالأمة الى الوضع السوي السليم.
هذا الموقف الأخير
يعترف بالماضي دون أن يرى فيه الكمال ويعتبره مرحلة لا يمكن أن تسترجع ولكنها
تستطيع أن تؤثر، وأن لها في الحاضر صلات ووشائج حية، وهي ان كان تجاوزها واجبا،
فليس بترها واستئصالها ممكنا ولا مفيدا. فنحن ننظر الى الماضي لنفيد منه لا لنفيده،
لانه بغنى عنا، ولنعين الأسس التي يجب أن نبني عليها مستقبلنا هذا منذ الحاضر، فهذه
الأسس يجب أن تكون مطلقة ثابتة فلا خير في أساس يتبدل مع الزمن ويصلح لقسم من
المواطنين أو لنوع من التفكير، كما انها يجب أنه تكون أسسا حية، معجونة بدم الواقع
منسوجة بنسيج التجارب.
لقد أفصح الدين في
الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية فهل معنى ذلك بانه يتعذر
على هذه الرسالة ان تكون قومية؟ واذا اعتبرناها قومية فكيف فهمها غير العرب فوسعتهم
وطبعتهم بطابعها، وهل الرسالة شيء ينتهي في وقت ما ام انها تتجدد وتتكامل مع
الحياة؟ واذا افترضنا ان مضمونها واحد فما معنى خلود الرسالة، هل هو جمودها أي انها
تحوي أشياء لا تزيد ولا تنقص أم يعني انها فوق الاشياء وانها نزوع ومهمة؟
هذه كلها أسئلة تطرح
بصدد الرسالة العربية، ويمكننا أن نجيب بأن الرسالة يجب ان تفهم على انها نزوع
واستعداد اكثر من كونها أهدافا معينة محدودة. ولا بد لنا ونحن في معرض الكلام عن
الرسالة العربية في الماضي من ان نرسم صورة موجزة سريعة للفترات الرئيسية الممثلة
لحياة الامة العربية والمفصحة عنها حتى الان.
ان الجاهلية متمثلة بالشاعر
الجاهلي، فهو لسان حال القبيلة متصل بها قلما ينفصل عنها أو يستقل بالكلام لانه
يتكلم اكثر الاحيان بلسان الجمع. فالجاهلية تمثل تجانس المجموع الى حد بعيد وضيق
هذا المجموع ايضا، فليس للفرد في الجاهلية مكان، انها طغيان المجموع على الفرد،
فالقيم تستمد من هذا المجموع والفرد متقيد بها، والجاهلية تمثل أيضا تجاهلا للقدر
كأنه لم يكن بينها وبينه أي صلة او أي تعارف واضح على الاقل. والجاهلي في شعره
وتفكيره وسلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان، لا يتصل بالماضي ولا يتعرف على
المستقبل او يتوقع منه شيئا، كما لا يتصل بالعالم المأهول النائي ولا يدرك سر الكون
الواسع المحيط به. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر، انها مسرح نشاطه
وبطولته ولا يمكننا أن نتصور بطلا جاهليا بدون جمع يشاهدون بطولته ويصفقون له.
ثم يظهر الاسلام
فيحدث انقلابا في حياة العرب وفي أنفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع، كما ان
الفرد ليس هو الذى يفرضها. انها تصدر من مكان هو فوق المجموع والفرد معا، وفي هذا
ضمان لحرية الفرد وانسجامه مع المجموع في آن واحد. أما صدر الاسلام فانه من ناحية
اخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد ان كانت متجاهلة له، فتصبح ارادة القدر
هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان، ويصبح العالم كله، لا بل الكون وكل ما هو
منظور وغير منظور مسرحا لنشاطه ولتطبيق هذه القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة
العربية.
والحاضر الذي كان
النقطة الوحيدة التي ينمسك بها الجاهلي وينقذ بها نفسه من النسيان والعدم، أصبحت في
نظر العربي الجديد المسلم هي النقطة المظلمة وحدها وكل ما عداها مضيئ، لانها هي
مكان التجربة والامتحان، والهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد
والتقوى. لقد تبدل القلق الخارجي في نفس العربي الجديد وحل محله القلق الداخلي، كما
تبدلت عزلة المكان ووحشة الزمان بعزلة الفكر ووحشة في النفس والضمير فلم يعد الرجل
يطمئن بسهولة الى قيمة أعماله، ويقتنع بموافقة المجموع او القبيلة، بل لم يعد يقتنع
بتلك القيم التقليدية، بل لم يعد يقنعه شيء غير رضا ذلك الضمير الصعب الممعن في
التشدد.
هذه الفتره التي
انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الاسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده
الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جدا لم يلبث
العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ ان
فقدوا بعد سنوات معدودة شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة
المتماوجة من الشعوب، عادوا الى عصبيتهم الجاهلية والى صراع القبائل وتنافسها،
فعندما لا تتوافر الحياة القومية على شكلها الصحيح تعود الأنانية الضيقة والنظرة
المحدودة. ولقد تلت هذا عصور الضعف، وتبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي
وخير من يمثل هذه العصور هو المتنبي. قد يرى في هذا مفارقة لان المتنبي شاعر القوة
غير انه في الحقيقة رد فعل لعصر الضعف، لذلك فهو يمثله تمثيلا صادقا.
في هذا العصر تنعكس
الآية، فالقيم لا تستمد من المجموع لانه تفكك وانهار وقام على أنقاضه أفراد
يمثلونه، والفرد يستعد القيمة من نفسه ولا ينشد الا البطولة والقوة للقوة، وهكذا لم
تعد القيم فوق الفرد والمجموع معا بل أصبحت قيما فردية يخلقها الفرد لنفسه، بعد ان
كانت المساواة في الجاهلية على حساب الحرية، أصبحت الحرية في عصر الضعف على حساب
المساواة، فالفرد يرفض التساوي مع غيره لأنه لا بجد مجموعا حيا ينتسب إليه، وهو
وحيد لذلك يقول بمبدأ التفاوت ويتخذ لنفسه مثلا أعلى يعلو بنسبة افتراقه مثل
الآخرين واختلافه عنهم واحتقاره لهم، وللمتنبي في التعبير عن هذا أقوال كثيرة.
ان غايتنا من هذا
العرض هي ان نعبر عن روح العربي، فنرى في أي وسط وضمن أية شروط تطمئن الروح العربية
وتأخذ مداها وحريتها وتنطلق على سجيتها.
الجاهلية تمثل وسطا عربيا صرفا
غير أنه ضيق محدود، فقد كثرت التقاليد وبولغ
بالاستسلام للماضي وللقيم
الموروثة حتى تعذر وجود الفرد الذي هو وحده يحيي المجموع ويجدده. فالجاهلية تمثل
جسما حيا قويا ولكنه سجين تعوقه العوائق فكان لا بد له من ان يتخطاها ويفلت من
القيود. ثم أعقبت ذلك فترة قصيرة تحققت فيها مطالب الروح العربية في الحرية
والمساواة وفي انطلاق النفس العربية والفكر العربي الى ما هو أثبت وأوسع من القيم
النسبية الواهية، فارتبطت بقيم مطلقة ثابتة شعر العربي بالارتياح إليها والاطمئنان
فأعطى كل ما عنده. ولما فقد الكيان القومي عاد الفرد الى الوحشة واليأس.
قد يكون هناك بعض
الشبه بين نفسية المتنبي مثلا وبين الجاهليين ولكنه شبه ظاهري خدّاع. ففي الجاهلية
ضيق ينبئ عن امل واسع وثورة تتهيأ، في حين ان ثورة الفرد التي يمثلها المتنبي ثورة
يائسة الى أبعد حدود اليأس، لأن العلاقة الحية التي لا يمكن للفرد ان يعيش بدونها
وهي الارتباط بمجموع حي، قد فقدت في عصر الضعف وطغيان العناصر الأجنبية وتفكك
الكيان العربي.
ان غايتنا من عرض هذه
الصورة البسيطة لفترات رئيسية من حياة الامة العربية -كما قلنا- ان نستخلص منها ما
يفيدنا في حاضرنا فكيف يكون حاضر البعث الجديد؟
انه لا يزال مترددا
حائرا فيه ميل الى سيطرة قيم المجموع كما في الجاهلية. فالبعث الجديد مهدد بأن يخنق
نفسه ويغل نشاطه اذا تبنى هذا الطغيان للمجموع على الفرد والمجموع لا ينتج غير قيم
نسبية، لذلك يكون البعث مهددا بأن يقوم على أسس متقلقلة لا تصمد للزمن ولا تصلح لكل
الحالات. ويبدو هذا جليا عندما نرى البعض يقولون مثلا بأن العروبة فوق الجميع، فهم
يقصدون بالعروبة ما يقرره المجموع. وفي مثل هذا القول خطر. فنحن نؤمن بأن العروبة
فوق الجميع بمعنى انها فوق المصالح والأنانيات والاعتبارات الزائفة الزائلة، و لكن
شيئا واحدا نؤمن بأنه فوق العروبة، ألا وهو الحق. فالعروبة يجب ان ترتبط بمبدأ ثابت
يكون هو الضامن الوحيد لتجدد ولتكامل ولاستمرار حياتها نحو النمو والاتساع، فيجب أن
يكون شعارنا: الحق فوق العروبة الى ان يتحقق اتحاد العروبة بالحق.
ان الرسالة العربية
اليوم هي في ان يتطلع العرب الى بعث أمتهم، فهذا خير ما يقدمونه للإنسان لأن القيم
الانسانية لا يمكن ان تخصب و تثمر الا في أمة سليمة.
فعلى العرب ان يحيوا حاضرهم حتى يستطيعوا
ضمان حياة مستقبلهم لان المستقبل لن يأتي ما لم نتوصل الى ان نحيا حاضرنا بآلامه
ومآسيه.
ان الرسالة العربية
الخالدة هي في فهم هذا الحاضر وتلبية ندائه استجابة لضروراته. والخلود ليس شيئا
بعيدا في الأفق او خارج نطاق الزمن. انه ينبعث من أعماق الحاضر، فاذا فهمه العرب
بصدق وعاشوه بإخلاص فانهم سيؤدون رسالتهم الخالدة. انهم اذا عرفوا هذه التجربة
ومروا بها حتى نهايتها، وتغلبوا على ضعفهم وتقاعسهم ونفسيتهم السطحية الزائفة، لا
يكونون قد بتوا أمتهم فحسب وانشأوا كيانا قوميا بل يكونون قد قدموا للإنسانية كلها
بنتيجة هذه التجربة أدوات صالحة أيما صلاح ومهيأة أيما تهيئة لحمل أعظم الرسالات
وأصدقها.
[size=21]
عام 1946
حول الرسالة العربية
الرسالة العربية
إيمان قبل كل شيء ولا يعيبها هذا او ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة هي ان
الايمان يسبق المعرفة الواضحة. وان من الاشياء ما هو بديهي لا يحتاج الى براهين
ودراسات، انه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة. فالرسالة شيء ملازم للأمة، ومن
حقها، أن تطمح الى بلوغها كما يحق لكل فرد ان يطمح الى المروءة والبطولة. ولكن في
الواقع ثمة فرقا هو ان الحق قد يبقى عند الكثيرين نظريا لا يتحقق في العمل، فمن حق
كل فرد ان يطمح الى البطولة -كما قلنا- ولكن كل الناس ليسوا ابطالا، فكل امة من
حقها أن تطمح في أن تكون لها رسالة، ولكن الامم ليست كلها على السواء ذات رسالات،
او ليست رسالاتها متساوية في درجة النضج وفي مدى التحقيق والشمول.
ان علينا ان نفرق بين
معنى الحياة وبين الرسالة فلكل فرد مهما صغر شأنه ومهما قلت مواهبه معنى لحياته،
ولكل أمة مهما ضاق نشاطها وقلت مواهبها معنى يستخرج من حياتها، غير ان هذا ليس هو
المقصود بالرسالة. فالبطولة عند الافراد ليست مجرد معنى الحياة انها الحد المعين
الذي يبلغه تكامل شخصية الفرد ونضجها وأشعاعها حتى تصل الى درجة التأثير والتوجيه
واثارة الاعجاب، وهي عند الامة أن تخرج من نطاق النشاط المادي والانانية الضيقة
وترتفع الى مستوى التوجيه الانساني والاشعاع على غيرها من الامم.
وشعار البعث العربي
لا يرمز الى أشياء مقبلة بعيدة عن الواقع، بل يهدف في الدرجة الاولى الى تلبية
حاجات الحاضر وضروراته، وهو يعني ان الامة العربية واحدة، فلا نعترف بهذه التجزئة
المصطنعة العارضة. واننا نسعى الى تحقيق هذه الوحدة ليس في الارض فحسب بل ايضا في
الروح والاتجاه.
اما الرسالة الخالدة فالقصد
منها ان هذه الامة لا تعترف بواقعها السيء وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها
الأصلية بين الأمم، بل تصر على انها لا تزال هي هي في جوهرها، تلك الامة التي بلغت
في أزمان متعددة مختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالنها، فهي اذن بصلتها ببعضها
وبماضيها لا تزال واحدة ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها
مؤقتا. فهذه الامة التي تستيقظ اليوم وتتحفز للنهوض ليست هي بنت اليوم، بل هي نفسها
قبل ألف وقبل ألوف السنين، ميزتها وحدة الاصل والعنصر يوم كانت الوحدة هي الرابط
المكينة التي تجمع الأفراد وتطبعهم بطابع واحد وتخلق فيهم نواة واحدة، ثم صقلتها
وغذتها وحدة اللغة والروح والتاريخ والثقافة، ولما فقد هذا العنصر مكانه الرئيسي
بين العوامل المكونة للأمم فقدت الأمة شيئا من تجانسها الضيق غير انها عوضت عنه
بتنوع في المواهب والكفاءات وانطلاق في الفكر وتسام في المعنى الانساني. فهذه الأمة
التي افصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة افصاحا متعددا متنوعا في تشريع حمورابي
وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف
الازمان ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف.
ولكن هل يستتبع
تبنينا لماضي الأمة واعتبارنا انه يؤلف وحدة حية مع حاضرها ومستقبلها، اننا نوافق
عليه وعلى كل ما جاء فيه؟ وهل حياة الامة مسيرة بقدر خارج عن ارادتنا، وان كل مرحلة
هي نتيجة حتمية للمراحل التي سبقتها؟ ام ان على الأمة ان تساهم الى حد بعيد في خلق
مصيرها فاذا انحرفت عنه وتلاشت مساهمتها في صنع قدرها، فانما ذلك لمرض طارئ تجب
معالجته. فهذا الماضي كان يمكن لبعضه ان يكون خلاف ما كان ولبعضه الآخر ان يكون
أقوى وأكمل مما كان! نحن سادة مصيرنا وصانعو قدرنا ندرك ادراكا عميقا ان الأمة
الحية هي التي تحيا الآن والتي ينفسح امامها مجال الحياة للمستقبل، وانها الامة
التي تخدم ماضيها باستخدامها اياه لا باستسلامها له، والأمة الحية تنمو وتتكامل
ويكون ماضيها مهما سما دون حاضرها ويكون مستقبلها أمامها لا وراءها.
وفكرة الرسالة تقود
حتما الى تكوين نظرة الى الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، فالاتجاه الشيوعي ينكر
كل ماض، بمعنى انه لا يقر بصلاح أي ماضي فهو يدعو الى بناء جديد من أساسه عند مختلف
الامم، وهناك اتجاه آخر ينكر الماضي عامة في مظاهره فقط وفي الواقع ينكر الماضي
العربي، وهذا الاتجاه هو الاتجاه المعجب بالغرب وحضارته، والذي يدعو الى اهمال
الماضي وتناسيه واخذ الحضارة الغربية بكليتها، فهو يعتقد أن فساد الحاضر في المجتمع
العربي ليس نتيجة انحراف ومرض أصاب الأمة، بل هو نتيجة منطقية لبذور من الفساد كانت
منذ البدء في حياة العرب،
او لامكانيات من الخطأ والانحراف تضخمت ونمت مع الزمن حتى وصلت الى هذا الحاضر،
وهناك اتجاه ثالث هو اتجاه
البعث العربي الذي لا يتعصب لنظرية معينة ولا يقول بالاخذ المصطنع، بل يعتبر حياة
الامة كجسم حي كان صحيحا ثم اعتل، ويعتبر ان التقدم يعني معالجة المرض والعودة
بالأمة الى الوضع السوي السليم.
هذا الموقف الأخير
يعترف بالماضي دون أن يرى فيه الكمال ويعتبره مرحلة لا يمكن أن تسترجع ولكنها
تستطيع أن تؤثر، وأن لها في الحاضر صلات ووشائج حية، وهي ان كان تجاوزها واجبا،
فليس بترها واستئصالها ممكنا ولا مفيدا. فنحن ننظر الى الماضي لنفيد منه لا لنفيده،
لانه بغنى عنا، ولنعين الأسس التي يجب أن نبني عليها مستقبلنا هذا منذ الحاضر، فهذه
الأسس يجب أن تكون مطلقة ثابتة فلا خير في أساس يتبدل مع الزمن ويصلح لقسم من
المواطنين أو لنوع من التفكير، كما انها يجب أنه تكون أسسا حية، معجونة بدم الواقع
منسوجة بنسيج التجارب.
لقد أفصح الدين في
الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية فهل معنى ذلك بانه يتعذر
على هذه الرسالة ان تكون قومية؟ واذا اعتبرناها قومية فكيف فهمها غير العرب فوسعتهم
وطبعتهم بطابعها، وهل الرسالة شيء ينتهي في وقت ما ام انها تتجدد وتتكامل مع
الحياة؟ واذا افترضنا ان مضمونها واحد فما معنى خلود الرسالة، هل هو جمودها أي انها
تحوي أشياء لا تزيد ولا تنقص أم يعني انها فوق الاشياء وانها نزوع ومهمة؟
هذه كلها أسئلة تطرح
بصدد الرسالة العربية، ويمكننا أن نجيب بأن الرسالة يجب ان تفهم على انها نزوع
واستعداد اكثر من كونها أهدافا معينة محدودة. ولا بد لنا ونحن في معرض الكلام عن
الرسالة العربية في الماضي من ان نرسم صورة موجزة سريعة للفترات الرئيسية الممثلة
لحياة الامة العربية والمفصحة عنها حتى الان.
ان الجاهلية متمثلة بالشاعر
الجاهلي، فهو لسان حال القبيلة متصل بها قلما ينفصل عنها أو يستقل بالكلام لانه
يتكلم اكثر الاحيان بلسان الجمع. فالجاهلية تمثل تجانس المجموع الى حد بعيد وضيق
هذا المجموع ايضا، فليس للفرد في الجاهلية مكان، انها طغيان المجموع على الفرد،
فالقيم تستمد من هذا المجموع والفرد متقيد بها، والجاهلية تمثل أيضا تجاهلا للقدر
كأنه لم يكن بينها وبينه أي صلة او أي تعارف واضح على الاقل. والجاهلي في شعره
وتفكيره وسلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان، لا يتصل بالماضي ولا يتعرف على
المستقبل او يتوقع منه شيئا، كما لا يتصل بالعالم المأهول النائي ولا يدرك سر الكون
الواسع المحيط به. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر، انها مسرح نشاطه
وبطولته ولا يمكننا أن نتصور بطلا جاهليا بدون جمع يشاهدون بطولته ويصفقون له.
ثم يظهر الاسلام
فيحدث انقلابا في حياة العرب وفي أنفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع، كما ان
الفرد ليس هو الذى يفرضها. انها تصدر من مكان هو فوق المجموع والفرد معا، وفي هذا
ضمان لحرية الفرد وانسجامه مع المجموع في آن واحد. أما صدر الاسلام فانه من ناحية
اخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد ان كانت متجاهلة له، فتصبح ارادة القدر
هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان، ويصبح العالم كله، لا بل الكون وكل ما هو
منظور وغير منظور مسرحا لنشاطه ولتطبيق هذه القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة
العربية.
والحاضر الذي كان
النقطة الوحيدة التي ينمسك بها الجاهلي وينقذ بها نفسه من النسيان والعدم، أصبحت في
نظر العربي الجديد المسلم هي النقطة المظلمة وحدها وكل ما عداها مضيئ، لانها هي
مكان التجربة والامتحان، والهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد
والتقوى. لقد تبدل القلق الخارجي في نفس العربي الجديد وحل محله القلق الداخلي، كما
تبدلت عزلة المكان ووحشة الزمان بعزلة الفكر ووحشة في النفس والضمير فلم يعد الرجل
يطمئن بسهولة الى قيمة أعماله، ويقتنع بموافقة المجموع او القبيلة، بل لم يعد يقتنع
بتلك القيم التقليدية، بل لم يعد يقنعه شيء غير رضا ذلك الضمير الصعب الممعن في
التشدد.
هذه الفتره التي
انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الاسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده
الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جدا لم يلبث
العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ ان
فقدوا بعد سنوات معدودة شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة
المتماوجة من الشعوب، عادوا الى عصبيتهم الجاهلية والى صراع القبائل وتنافسها،
فعندما لا تتوافر الحياة القومية على شكلها الصحيح تعود الأنانية الضيقة والنظرة
المحدودة. ولقد تلت هذا عصور الضعف، وتبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي
وخير من يمثل هذه العصور هو المتنبي. قد يرى في هذا مفارقة لان المتنبي شاعر القوة
غير انه في الحقيقة رد فعل لعصر الضعف، لذلك فهو يمثله تمثيلا صادقا.
في هذا العصر تنعكس
الآية، فالقيم لا تستمد من المجموع لانه تفكك وانهار وقام على أنقاضه أفراد
يمثلونه، والفرد يستعد القيمة من نفسه ولا ينشد الا البطولة والقوة للقوة، وهكذا لم
تعد القيم فوق الفرد والمجموع معا بل أصبحت قيما فردية يخلقها الفرد لنفسه، بعد ان
كانت المساواة في الجاهلية على حساب الحرية، أصبحت الحرية في عصر الضعف على حساب
المساواة، فالفرد يرفض التساوي مع غيره لأنه لا بجد مجموعا حيا ينتسب إليه، وهو
وحيد لذلك يقول بمبدأ التفاوت ويتخذ لنفسه مثلا أعلى يعلو بنسبة افتراقه مثل
الآخرين واختلافه عنهم واحتقاره لهم، وللمتنبي في التعبير عن هذا أقوال كثيرة.
ان غايتنا من هذا
العرض هي ان نعبر عن روح العربي، فنرى في أي وسط وضمن أية شروط تطمئن الروح العربية
وتأخذ مداها وحريتها وتنطلق على سجيتها.
الجاهلية تمثل وسطا عربيا صرفا
غير أنه ضيق محدود، فقد كثرت التقاليد وبولغ
بالاستسلام للماضي وللقيم
الموروثة حتى تعذر وجود الفرد الذي هو وحده يحيي المجموع ويجدده. فالجاهلية تمثل
جسما حيا قويا ولكنه سجين تعوقه العوائق فكان لا بد له من ان يتخطاها ويفلت من
القيود. ثم أعقبت ذلك فترة قصيرة تحققت فيها مطالب الروح العربية في الحرية
والمساواة وفي انطلاق النفس العربية والفكر العربي الى ما هو أثبت وأوسع من القيم
النسبية الواهية، فارتبطت بقيم مطلقة ثابتة شعر العربي بالارتياح إليها والاطمئنان
فأعطى كل ما عنده. ولما فقد الكيان القومي عاد الفرد الى الوحشة واليأس.
قد يكون هناك بعض
الشبه بين نفسية المتنبي مثلا وبين الجاهليين ولكنه شبه ظاهري خدّاع. ففي الجاهلية
ضيق ينبئ عن امل واسع وثورة تتهيأ، في حين ان ثورة الفرد التي يمثلها المتنبي ثورة
يائسة الى أبعد حدود اليأس، لأن العلاقة الحية التي لا يمكن للفرد ان يعيش بدونها
وهي الارتباط بمجموع حي، قد فقدت في عصر الضعف وطغيان العناصر الأجنبية وتفكك
الكيان العربي.
ان غايتنا من عرض هذه
الصورة البسيطة لفترات رئيسية من حياة الامة العربية -كما قلنا- ان نستخلص منها ما
يفيدنا في حاضرنا فكيف يكون حاضر البعث الجديد؟
انه لا يزال مترددا
حائرا فيه ميل الى سيطرة قيم المجموع كما في الجاهلية. فالبعث الجديد مهدد بأن يخنق
نفسه ويغل نشاطه اذا تبنى هذا الطغيان للمجموع على الفرد والمجموع لا ينتج غير قيم
نسبية، لذلك يكون البعث مهددا بأن يقوم على أسس متقلقلة لا تصمد للزمن ولا تصلح لكل
الحالات. ويبدو هذا جليا عندما نرى البعض يقولون مثلا بأن العروبة فوق الجميع، فهم
يقصدون بالعروبة ما يقرره المجموع. وفي مثل هذا القول خطر. فنحن نؤمن بأن العروبة
فوق الجميع بمعنى انها فوق المصالح والأنانيات والاعتبارات الزائفة الزائلة، و لكن
شيئا واحدا نؤمن بأنه فوق العروبة، ألا وهو الحق. فالعروبة يجب ان ترتبط بمبدأ ثابت
يكون هو الضامن الوحيد لتجدد ولتكامل ولاستمرار حياتها نحو النمو والاتساع، فيجب أن
يكون شعارنا: الحق فوق العروبة الى ان يتحقق اتحاد العروبة بالحق.
ان الرسالة العربية
اليوم هي في ان يتطلع العرب الى بعث أمتهم، فهذا خير ما يقدمونه للإنسان لأن القيم
الانسانية لا يمكن ان تخصب و تثمر الا في أمة سليمة.
فعلى العرب ان يحيوا حاضرهم حتى يستطيعوا
ضمان حياة مستقبلهم لان المستقبل لن يأتي ما لم نتوصل الى ان نحيا حاضرنا بآلامه
ومآسيه.
ان الرسالة العربية
الخالدة هي في فهم هذا الحاضر وتلبية ندائه استجابة لضروراته. والخلود ليس شيئا
بعيدا في الأفق او خارج نطاق الزمن. انه ينبعث من أعماق الحاضر، فاذا فهمه العرب
بصدق وعاشوه بإخلاص فانهم سيؤدون رسالتهم الخالدة. انهم اذا عرفوا هذه التجربة
ومروا بها حتى نهايتها، وتغلبوا على ضعفهم وتقاعسهم ونفسيتهم السطحية الزائفة، لا
يكونون قد بتوا أمتهم فحسب وانشأوا كيانا قوميا بل يكونون قد قدموا للإنسانية كلها
بنتيجة هذه التجربة أدوات صالحة أيما صلاح ومهيأة أيما تهيئة لحمل أعظم الرسالات
وأصدقها.
[size=21]
عام 1946
رد: الرسالة العربية الخالدة
معنى الرسالة الخالدة
طالما وجه إلي أعضاء
الحركة وأصدقاؤها السؤال عما نعني بالرسالة الخالدة. وكنت دوماً أجيب
جواباً بسيطاً لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي
حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي
السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر، واعتبرت هذه النظرة بعيدة
عن الحياة وعن التجربة، ورأيت أنهم يحسبون الرسالة شيئاً جامداً منفصلاً
عن نفوس أبناء الأمة وحياتها وتجاربها. فكنت أجيب دوماً بأن رسالة العرب
الخالدة ليست للمستقبل وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من
العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة وهذا القبول بان تكون
نهضتهم نتيجة التعب والألم، هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت
حياتهم ومجتمعهم، هذه الصراحة في رؤية عيوبهم، هذه الجرأة في الاعتراف
بها، وهذا التصميم الرجولي على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية غير
معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر، هذه التجربة المرة المملوءة
بالكوارث... هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة،
لأنهم في هذه التجربة سيعرفون من جديد ما معنى العمل والتضحية،
ما
معنى التفكير السليم المستقل الذي لا يخاف ضغط الغوغاء، ما معنى
الخلق الحر الذي لا يستسيغ التقليد.
في هذا الحاضر الذي يبدو أسود قاتماً بشعاً فقيراً، تكمن الكنوز
الوفيرة، الكنوز الروحية والخلقية والفكرية للنوع السليم من العرب،
ففي كل عربي بذور السلامة والصحة.
إن القيم التي نتغنى بها والتي نعرف معرفة
سطحية جامدة أن جدودنا الأبطال قد مثلوها، ثم نعجز عن تحقيق جزء
بسيط منها في حياتنا، علينا أن نستكشفها من جديد، وهذا هو معنى
التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة بأنها تنكر التراث القومي
والأخلاق القويمة، بينما هي في الحقيقة وصول صحيح إلى القيم
الحقيقية الكامنة في النفس العربية والتي لا يمكن أن ترجع إلينا
من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا بها ولادة
جديدة واكتشفناها اكتشافاً جديداً.
أيها الاخوان، في الوقت الذي تكثر فيه موجات
التشاؤم والتخاذل، وتتكاثر فيه الكوارث والنكبات، يشعر العرب
الصادقون بأن يوم الخلاص قد قرب، لأن الطريق قد فتح لتهتز النفس
العربية أخيراً، لتهتز اهتزازاً عميقاً، لتتذكر ذاتها ومهمتها
وتنتفض بانطلاق وحيوية وإيمان مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل
تحقيق رسالتها في الوجود. في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب
ويكثر المتشائمون يجب أن يظهر المؤمنون الحقيقيون، ولا يأتي
الإيمان الحقيقي إلا بنتيجة التجربة والمعاناة، ونتيجة الامتزاج
الفعلي بين الأفراد وبين مصير أمتهم. عندما يتم هذا الامتزاج
نستطيع أن نثق بأن العرب يسيرون إلى ظفر محقق في آخر هذه التجربة،
وأنهم سيحملون ثماراً روحية وخلقية وفكرية لا تغذي مستقبلهم فحسب
وإنما بمقدورها أن تنقذ الإنسانية مما ينتابها من اضطراب في القيم، ومن تشويه فيها لأن هذه التجربة التي يمر العرب بها اليوم لا
أعتقد بأن امة غير العرب قد عانتها، فإذا كان ابتلاؤها بهذه
المصائب أليماً موجعاً، فعلينا أن ننظر أيضاً إلى حكمة القدر الذي
يوصل الأمة العربية للعظمة والمجد حتى في أوقات محنتها وتأخرها،
فارتقاؤها يكون عظيماً وقيمتها أيضاً عظيمة، ولا تكون الآلام
عميقة إلى هذا الحد إلا لكي نستكشف كنوزاً عجزت عن الوصول إليها
أمم غيرنا.
وما هذه التجارب التي
يفرضها القدر علينا إلا في سبيل أن نخرج من
بعد طول القعود والسبات بتجديد وإكمال للرسالة وللقيم وللحضارة
العربية التي إنما قدر لها أن تتغذى دوماً بالآلام والأتعاب.
( عام 1950 )
رد: الرسالة العربية الخالدة
الرسالة الخالدة
يحسب
البعض أن الرسالة الخالدة شيء جامد وأنها عبارة عن أهداف منفصلة عن
الحياة، وينتظرون يوماً من الأيام أن تستطيع الأمة العربية بلوغ
المستوى الذي يؤهلها لحمل هذه الرسالة.
إن
الرسالة العربية
الخالدة بادئة منذ الآن، فهي ليست شيئاً منفصلاً عن العرب في هذه
المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض. الرسالة العربية
بدأت منذ أن بدأ العرب، وخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي
أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر،
وأنه لابد من حركة إنقاذ، أي لابد من الانقلاب الشامل.
عندما
بدأ العرب يواجهون مشكلاتهم بجرأة وصدق وصراحة ووثقوا بأن حل هذه
المشكلات سوف يأتي من داخلهم، لا من معجزة
أو من دولة خارجية وإنما بتعبهم وثباتهم، عندها بدأت الرسالة الخالدة
تتحقق على الأرض العربية.
فنحن لا
نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا
نستطيع الآن تحقيقها بل ونكاد لا نحسن فهم
حضارة الآخرين. الرسالة شيء أعمق وأصدق من
ذلك. انها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة وتضع في
هذه التجربة كل حياتها.
إنها
تدخل هذه التجربة بإيمان، وتسعى للتغلب على كل المفاسد بنفسها وقواها
الذاتية، دون مواربة أو خداع أو أنصاف حلول أو حلول سطحية.
إن هذا
الطريق سيوصل العرب إلى تغذية الروح الإنسانية بكاملها لأنهم
يكونوا قد جربوا أعظم تجربة، ولأن آلام العرب لم تمر على أحد من البشر
أو أمة من الأمم.
فمن هذه
المشاكل القاسية والمعقدة ومن مواجهتها بالصدق والصراحة، ومن الاتكال
على قوى الأمة وحدها، من كل هذا سيخرج العرب في النهاية وهم أرفع
روحاً، وأعمق حساً وشعوراً، وأوسع وعياً وأكثر واقعية، من أكبر أمة على
وجه الأرض.
عندها
يستطيعون أن يقدموا للإنسانية ثمرة جديدة هي نتيجة هذا التوحيد بين
النظرة المثالية والواقعية، هي أن يغذوا الروح بقوة العمل، وأن يرفعوها
إلى مستواها الرفيع العالي، وهي أن لا تؤمن
بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه. عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب،
وإنما كنز روحي.
( عام 1950 )
يحسب
البعض أن الرسالة الخالدة شيء جامد وأنها عبارة عن أهداف منفصلة عن
الحياة، وينتظرون يوماً من الأيام أن تستطيع الأمة العربية بلوغ
المستوى الذي يؤهلها لحمل هذه الرسالة.
إن
الرسالة العربية
الخالدة بادئة منذ الآن، فهي ليست شيئاً منفصلاً عن العرب في هذه
المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض. الرسالة العربية
بدأت منذ أن بدأ العرب، وخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي
أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر،
وأنه لابد من حركة إنقاذ، أي لابد من الانقلاب الشامل.
عندما
بدأ العرب يواجهون مشكلاتهم بجرأة وصدق وصراحة ووثقوا بأن حل هذه
المشكلات سوف يأتي من داخلهم، لا من معجزة
أو من دولة خارجية وإنما بتعبهم وثباتهم، عندها بدأت الرسالة الخالدة
تتحقق على الأرض العربية.
فنحن لا
نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا
نستطيع الآن تحقيقها بل ونكاد لا نحسن فهم
حضارة الآخرين. الرسالة شيء أعمق وأصدق من
ذلك. انها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة وتضع في
هذه التجربة كل حياتها.
إنها
تدخل هذه التجربة بإيمان، وتسعى للتغلب على كل المفاسد بنفسها وقواها
الذاتية، دون مواربة أو خداع أو أنصاف حلول أو حلول سطحية.
إن هذا
الطريق سيوصل العرب إلى تغذية الروح الإنسانية بكاملها لأنهم
يكونوا قد جربوا أعظم تجربة، ولأن آلام العرب لم تمر على أحد من البشر
أو أمة من الأمم.
فمن هذه
المشاكل القاسية والمعقدة ومن مواجهتها بالصدق والصراحة، ومن الاتكال
على قوى الأمة وحدها، من كل هذا سيخرج العرب في النهاية وهم أرفع
روحاً، وأعمق حساً وشعوراً، وأوسع وعياً وأكثر واقعية، من أكبر أمة على
وجه الأرض.
عندها
يستطيعون أن يقدموا للإنسانية ثمرة جديدة هي نتيجة هذا التوحيد بين
النظرة المثالية والواقعية، هي أن يغذوا الروح بقوة العمل، وأن يرفعوها
إلى مستواها الرفيع العالي، وهي أن لا تؤمن
بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه. عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب،
وإنما كنز روحي.
( عام 1950 )
رد: الرسالة العربية الخالدة
قضية الدين في
البعث العربي
ان أول ما أريد ان أنبه اليه هو ان ثقافة الاعضاء والشباب القومي بصورة عامة لا
يجوز ان تبقى ثقافة منفعلة(1)،
كأن ينظر الى قضية الأمة العربية على أنها تحتوي
مشاكل نظرية وعناوين لمشاكل يمكن ان تحل بجواب يعطى من شخص او من
صحيفة أو مجلة كتلك الاسئلة التي توجه عادة الى المجلات والاذاعات، فذلك
لا يكون ثقافة... وهذا هو النوع الرائج في وسطنا، ويكتفي به عامة الناس والذين
لا يعتبرون القضية قضية جدية تتعلق بمصيرهم بل تتحول في الواقع بالنسبة اليهم
الى كلام وتسلية بالكلام والنقاش لتمضية الوقت والاكتفاء بمفاهيم رائجة سطحية
جدا وخاطئة من أساسها، والدوران في نطاق هذه المفاهيم العامية السطحية واحتدام
الجدل بين وجهات نظر وآراء ليست هي في الواقع لا وجهات نظر ولا آراء. إن الذي
يهمنا نحن بالدرجة الأولى هو تكوين الجيل العربي الجديد الذي تلقى عليه مهمة
الإنقلاب العربي وإيصال القضية القومية الى الظفر والنجاح، يهمنا أن يكوّن هذا
الجيل لنفسه ثقافة حقيقية متميزة تميزاً واضحاً عن العامية المسيطرة على مجتمعنا.
وباختصار: كيف يجب أن نفهم الثقافة؟ هي أولاً مشاركة في الجهد وليست
انفعالا وتكيفاً، أي أن الذين عليهم أن يتثقفوا يتوجب عليهم ان يتعبوا وأن يتقاسموا
الجهد مع مثقفيهم وان يمشوا بأنفسهم خطوات جديدة في طريق المعرفة والتثقف اذ
لا يجدي قضيتنا شيئاً ان نجمع شباباً لا يعملون أكثر من حفظ بعض الشعارات
والكليشهات والاجوبة العامة الموجزة التي يمكن أن تفهم على أي شكل أي ان لا
تفهم مطلقا. على الشعب العربي ان يفهم ان الثقافة هي نوع من أنوع النضال،
النضال مع النفس، النضال مع الفكر لكي يتعب في تحصيل المعرفة ولكي يجرؤ
على تبديل الأسس السطحية في التفكير الشائع التي هي في داخله لكونه ابن
وسطه، لكي يعيد النظر في كل الامور الأساسية حتى يصل الى النظرة الجديدة،
النظرة الإنقلابية التي أوجدها الحزب في المجتمع العربي الجديد، والتي لا يعني
وجودها بأن جميع المنضوين تحت لواء الحزب او المناصرين لاتجاهه قد فهموها
وحققوها في أنفسهم وعاشوها بعمق. فكل شيء يمكن ان يستعار وان يقلد الا
الفكر: على كل شخص، على كل فرد ان يملكه شخصيا، اي ان يمشي هذا
الطريق من أوله بنفسه وبجهده الخاص حتى يصح أن يعتبر هذا الشخص انقلابيا وان
تكون نظرته أصيلة نابعة من نفسه لا مجرد تقليد واستعارة.
من المهم جدا أن نعود دوما الى أنفسنا بالنقد الذاتي حذرا وحيطة لكي نهدم
بعد كل خطوة نخطوها ما يعلق بنا من اصطناع وتزييف وتقليد اذ ليس أسهل من أن
يستسلم الإنسان للتقليد والتزييف لأن فيهما الراحة والكسل. فالحركة الصادقة
الحية هي التي تبقى في صراع مستمر مع نفسها كما هي في صراع مستمر مع أعدائها
ومع الاوضاع والقيم الفاسدة التي عليها ان تحطمها. لذلك رأيت من الواجب ان
ابدأ جوابي على الاسئلة بهذا التنبيه لكي تحتاطوا كثيرا لأنفسكم وترفضوا رفضا باتا
وجازما أن تكون فكرتكم وان يكون إيمانكم بالحركة شيئاً غير نابع من نفس كل منكم
وشيئاً سهلا يحفظ بالذهن ويلوكه اللسان ولكنه عديم الصلة بالحياة.
1- السؤال الأول: عن موقف الحزب عندما يصل الى الحكم ويحقق أهدافه
او يبدأ في تحقيق الانقلاب العربي، وكيف يكون موقفه من الدين بصورة عامة؟
للاجابة على هذا السؤ ال لا بد من ملاحظة أولى وهي ان لا فرق في نظرة حزبنا
بين المرحلة التي تسبق وصوله الى الحكم بالشكل الكامل وبين المرحلة الثانية
والاخيرة التي هي مرحلة التحقيق الإيجابي، تحقيق الإنقلاب العربي الشامل.
فعمل الحزب اذن واحد في المرحلتين ومنطقه واحد ونضاله أيضا واحد. كثيرا ما
رددنا خلال نضال الحزب هذه الفكرة بأن حزبنا سيعد أو هو مكلف بأن يعد الانقلاب
العربي منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه بإعداده أدوات الإنقلاب التي هي نفوس
الشباب، اذ لا يمكن التفريق بين الإنقلاب وأدواته. فكما تكون الأدوات يكون
الإنقلاب، وقد يكون التعبير غير دقيق، اي ان أعضاء الحزب المناضلين الذين
نسميهم أدوات الإنقلاب يطلب من الحزب أن يربيهم في تفكيرهم وفي سلوكهم
التربية الإنقلابية الصحيحة حتى يستطيعوا أن يحققوا الانقلاب عندما تتوافر جميع
الشروط لهم. للانقلاب شروط على نوعين: شروط ذاتية وشروط موضوعية - شروط
ذاتية يجب أن تتحقق في نفوس الإنقلابيين، في نفوس أعضاء الحزب وأنصاره،
وشروط موضوعية تتعلق بالظروف الخارجية والظروف الداخلية ونمو المجتمع والثروة
وشتى النواحي. فلو أهملنا الشروط الذاتية وتوفرت الشروط الموضوعية فلن يكون
ثمة انقلاب لأنه لن يكون ثمة من يؤمن بهذا الانقلاب، ومن يعي أهدافه ومن
يتصف بأخلاقه وبالإخلاص له حتى يحققه. لذلك أستطيع أن أعود الى المقدمة عن
الثقافة وأقول بأن من أهم عناصر الثقافة التي يجب ان تطلبوها انتم هو النضال نفسه،
هو العمل والمشاركة في حمل المسؤوليات والإتصال الحي بالواقع ومواجهة مشاكله
وصعوباته والاهتداء بالوعي والإرادة الى ايجاد الحلول المناسبة لها بشكل يقوي
التيار الإنقلابي ويوصل الإنقلاب الى أهدافه. هذا عنصر أساسي من عناصر الثقافة
الجديدة التي نطلبها للجيل الجديد اذ ان كل ثقافة تنحصر في الذهن والتفكير فقط
دون مشاركة فعلية وعملية، ليست ثقافة ناقصة فحسب، بل هي ثقافة مختلة ومنحرفة
من أساسها لأن عنصر العمل مفقود فيها.
المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشاكل في المجتمع العربي الحديث،
لذلك لا يعقل أن يتجاهلها حزبنا وان يتهرب من إيجاد الحلول لها. لهذه المشكلة
تعبيرات مختلفة، تعبير فكري يتصل بصميم عقيدتنا الإنقلابية وتعبير أخلاقي عملي
يتناول تصرفاتنا وردودنا على المشاكل الواقعية التي نواجهها. مهمة الحزب هي أن
يضع للعرب في هذه المرحلة الخطيرة صورة كاملة لمشاكل حياتهم والحل لهذه
المشاكل، واجبه ان يضع لهم صورة كاملة للحياة الإنسانية. فهل الدين شيء ثانوي
مصطنع في حياة الإنسان والامم؟ هل هو شيء عارض ولو أنه دخل حياتهم منذ ألوف
السنين؟ وإذا نظرنا اليه على أنه شيء غير أصيل، غير أساسي ولا يلبي حاجة صادقة
وعميقة في النفس فهل يمكن أن ينتهي ويزول مع ما وراءه من تاريخ حافل طويل منذ
آلاف السنين؟
إن الحزب لا يرى هذا بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه
يمكن ان يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم او يتأخر ولكنه لا يمكن أن يزول.
اذن فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه لم
نرض له ان يتكون تكوينا ناقصاً أو زائفاً، وأن نكتم عنه جانباً من الحقيقة أو نصف
الحقيقة فنعطيه فكرة تخدمه وقتاً من الزمن ثم لا تعود صالحة، عندها نصل الى
الشيوعية وفلسفتها، فنحن منذ بدء حركتنا نظرنا الى الشيوعية كشيء خطير وجدي
وجدير بأن يعتبر، وبالرغم من كل النواحي الإيجابية الخطيرة التي أتت بها فلسفة
ماركس فقد اعتبرناها ناقصة لأنها لم تعبر عن كامل الحقيقة بل أخفت بعض
نواحيها، وقد يكون قصدها من وراء ذلك تقوية العمل وتركيز العزم على مجال
محدود من الأهداف القريبة لكي يكون مردود العمل أكبر ونزوعه أقوى وأفعل، تاركة
للزمن فيما بعد ان يصلح ما أهملته وان يكملها..
فالماركسية تقوم على أساس نفي وانكار كل معتقد يتجاوز الطبيعة والمادة
والأشياء المحسوسة كما هو معروف، وليس هذا في الماركسية نتيجة عجز عن
الفهم، كلا بل له دافع عملي وهو: ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة
خاصة خلال التاريخ الحديث حيث تفاقمت الفروق الطبقية والإستغلال الطبقي، ما
دام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه واستخدم لمنع التحرر البشري
وكان في صف التأخر والعبودية والظلم، لذلك رأت الماركسية ان تنسفه نسفا.
فالدافع اذن دافع عملي وليس عجزا عن فهم أهمية الدين وحقيقته. ولكننا نحن لا نقر
هذا الدافع على ما فيه من واقعية، اذ أنه ينبىء عن ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل
هضم الحقيقة الكاملة. فنحن مع تبنينا للنظرة السلبية الى الدين، اي رغم معرفتنا
الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعما للظلم والتأخر والعبودية، نثق
رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين، وعلى
هذا النوع من التدين الكاذب والمشوه وأن يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي
الصادق حقه.
ونحن لا نجهل بأن نظرتنا هذه تتطلب هن الجهد والحذر أضعاف ما تتطلبه
النظرة الشيوعية التي تخلصت من المشكلة بأن رفضتها تماماً وألقتها جانبا. أما نحن
فالمشكلة بالنسبة لنا أعقد بكثير لأننا كما قلنا في مرحلة الإنقلاب، الإنقلاب
العميق
الجذور في كل الأمور الأساسية التي ترتكز عليها حياة العرب والتي يؤلف الدين
جزءاً منها. فلو اكتفينا مثلا بالنظرة السطحية وقلنا ان الدين رغم كل انحرافاته
وتردياته
والاشكال التي يستغل بها ضد مصلحة الشعب وضد التقدم وحرية الإنسان، هو بهذه
الصورة المشوهة وضمن هذا الاطار الرجعي، شيء صادق وأساسي لا يستغنى عنه
وانه متأصل بأعماق الإنسان، لذلك فنحن نوافق عليه بهذه الصورة ونتبناه! لو مررنا
على الدين هذا المرور السريع لأدّى الأمر بنا الى أن نلتقي مع الرجعية وان نقبل كل
أمراضنا الإجتماعية والفكرية والأخلاقية وأن نكون قد بقينا في أرضنا لم نغير في
حياة
العرب، وهذا تزوير كبير للحقيقة، وقتل بل خنق للإنقلاب قبل ان يولد.
فكرتنا إيجابية تنتهي دوماً الى تقرير الحقائق الإيجابية، ولكن يجب أن لا ننسى
بأن بين وضعنا الآن وبين هذه الحقائق الإيجابية التي يجب أن نصل اليها عندما
يتحقق الإنقلاب العربي، مسافات شاسعة يجب أن يبقى فيها التوتر شديداً بين
وضعنا السلبي المريض الذي نعيشه وبين المرامي الأخيرة لفكرتنا، وان تكون لدينا
الشجاعة الكافية واليقظة التامة لكي نتبين كل مفاسد أوضاعنا ونحاربها محاربة لا
هوادة فيها، وان نشق من خلال هذه المعركة السلبية التي نحارب فيها المفاهيم
البالية المشوهة، طريق القيمة الإيجابية التي سنصل اليها آخر الامر. كثيراً ما قيل
لنا، خلال السنوات التي مر بها الحزب في نضاله، من جماعات رجعية، متأخرة في
عقليتها، استغلالية في سلوكها تمثل المصالح والعقلية والأوضاع التي يتوجب علينا
القضاء عليها، كثيراً ما قيل لنا: ما دامت نظرتكم إيجابية وما دمتم تعرفون قيمة
الدين
فما الفرق بيننا وبينكم؟
الفرق كبير جدا، هو الفرق بين النقيضين. نحن نعتبر أن الرجعية الدينية تؤلف
مع الرجعية الإجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، وانها أكبر خطر
يهدد الدين. ان هذه الرجعية التي تحمل لواء الدين في يومنا هذا وتتاجر به وتستغله
وتحارب كل تحرر باسمه وتدخله في كل صغيرة وكبيرة لكي تعيق الإنطلاقة
الجديدة، هي أكبر خطرعلى الدين، وهي التي تهدم مجتمعنا وتشوهه، فلولم نكن
نحن ولو لم تكن حركتنا موجودة لتهدد المجتمع العربي بأن يشوهه الإلحاد، اذ
أننا
بمقاومتنا الرجعية الدينية بدون اعتدال وبدون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة
منها، ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد.
ولكن هذا شيء والسلوك والتصرف شيء آخر، او بالأصح يجب علينا أن نعرف
كيف نترجم فكرتنا ترجمة عملية وكيف يجب أن يكون تصرفنا العملي مؤدياً الى
الغاية المطلوبة: ان جمهور شعبنا ما زال متأخراً وما زال خاضعاً لمؤثرات رجال
الدين من شتى المذاهب والطوائف. فلو اننا ذهبنا الى جمهور الشعب، وليس لنا
غنى عنه اذ بدونه لا نستطيع أن نحقق أي تبديل أساسي في الحياة العربية، لو ذهبنا
اليه بأفكار فجة وبأساليب غير محكمة وتصرفنا تصرفات هي أقرب الى ردود الفعل
والنزق والمرض النفسي منها الى الإيمان بحركة منقذة، فأخذنا نطعن بالدين ونتبجح
بالكفر ونتحدى شعور الشعب في ما يعتبره هو مقدسا وثمينا، نكون بدون فائدة
وبدون أي مقابل أغلقنا أبواب الشعب في وجه الدعوة وأوجدنا ستارا كثيفا بيننا وبينه
حتى لا يعود قابلا او مستعدا لأن يسمع منا شيئا أو أن يسايرنا في نضالنا ودعوتنا.
فالمناضل البعثي يجب أن تتوافر فيه شروط صعبة جدا وتكاد تكون متناقضة،
فهو حرب على كل تدجيل باسم الدين والتستر وراءه لمنع التطور والتحرر والإبقاء
على الأوضاع الفاسدة والتأخر الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعرف حقيقة
الدين وحقيقة النفس الإنسانية التي هي ايجابية قائمة على الايمان لا تطيق الانكار
والجحود، وان جمهور الشعب ليس هو العدو بل هو الصديق الذي يجب أن نكسب
ثقته. صحيح انه مضلل مخدوع ولكننا نحن لا نستطيع أن نكشف له انخداعه إلا إذا
فهمناه وتجاوبنا معه وشاركناه في حياته وعواطفه ومفاهيمه، فنحن في كل خطوة
نخطوها نحوه نستطيع ان نطمع بخطوة من جانبه يأتي بها إلينا، لذلك يكون المناضل
البعثي مهددا دوما بالخطر: فهو ان سلك هذا السلوك مهدد بأن يتزمت وان ترجع اليه
عقليته الرجعية التي ثار عليها، وهو ان سلك سلوكا آخر معاكسا، إن شهر السيف
على المعتقدات الخاطئة مهدد بأن يصبح سلبيا وان يخون ما في فكرة البعث من
ايجابية فيلتقي بهذا مع السلبية الشيوعية التي رفضناها او ان يلتقي مع أي شكل من
أشكال التحرر الزائف المقتصر على التظاهر والتبجح. إذن على المناضل البعثي،
عندما يحارب الرجعية ويصمد أمام هجماتها وافتراءاتها وتهيجاتها وإثاراتها، ان يتذكر
دوما انه مؤمن بالقيم الايجابية والقيم الروحية وانه انما يحارب تزييف القيم من قبل
الرجعية ولا يحارب القيم نفسها. وانه عندما يساير جمهور الشعب ويتصرف تصرفا
حكيماً معه دون أن يجرح عواطفه لكي ينقله تدريجيا الى مستوى الوعي اللازم،
عليه أن يتذكر انه رجل ثائر متحرر لا يقبل لنفسه ولا لأمته مستوى رجعيا رخيصا من
الإعتقاد ولا صورة مشوهة للعقيدة الروحية، وان مسايرته للشعب ليست الا وسيلة
مؤقتة لكي يهيئه لأن يفهم الامور الصعبة. ان ثقة البعثي بالإنسان عامة وبالإنسان
العربي خاصة يجب أن تغريه دوما بالمزيد من الجرأة في مكافحة المعتقدات
الخاطئة الجامدة، وان لا يحسب ان الأمة العربية لا تتحمل هذه الكمية من الثورة
والتحرر فهي خصبة عميقة، وهي مختزنة لتجارب مئات السنين من الآلام، مئات
السنين من التأخر والظلم، لذلك فهي مهيأة كل التهيؤ لان تتفجر وان تبلغ مستوى
روحيا فيه كل الجرأة.
نيسان 1956
( 1 ) حديث ألقي على الاعضاء
والانصار في طرابلس.
مواضيع مماثلة
» بمناسبة الذكرى الثانية والستين لميلاد حزب الرسالة الخالدة
» بيان بمناسبة الذكرى الثالثة والستين لميلاد حزب الرسالة الخالدة
» البرنامج الثقافي لشعبة الرسالة
» إدارة موقع جبهة التحرير العربية تهنئ الأمة العربية بنجاح ثورتها في تونس ومصر
» الشباب جيل الثورة العربية
» بيان بمناسبة الذكرى الثالثة والستين لميلاد حزب الرسالة الخالدة
» البرنامج الثقافي لشعبة الرسالة
» إدارة موقع جبهة التحرير العربية تهنئ الأمة العربية بنجاح ثورتها في تونس ومصر
» الشباب جيل الثورة العربية
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: مكتبة الحزب والجبهة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى