الجيل العربي الجديد
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: مكتبة الحزب والجبهة
صفحة 1 من اصل 1
الجيل العربي الجديد
الجيل العربي الجديد
في حالة رقي الأمة وقوتها تخف مسؤولية الفرد، إذ يكون قادرا على نفعها عاجزا عن الإضرار بها، ولا يكون ثمة تناقض أو اختلاف كبير بين نفعه لها وانتفاعه منها، بل تنسجم المنفعتان في أكثر الأحيان. وبتحقيق الفرد شخصيته تتحقق شخصية أمته، وبقيامه بعمله الخاص يخدم الحياة العامة، وعندما يساهم في أوقات معينة ومناسبات محدودة في العمل العام، يعرف ان مساهمته اذ تضاف الى مساهمة الآخرين تؤدي بصورة أكيدة إلى النتيجة العامة المطلوبة أو ما يقاربها.
ذلك ان الأمة في هذه الحالة تسيطر على مصيرها وظروفها الى حد كبير، فحياتها ايجابية، دافقة، وهي تصعد وكأنها من قوة اندفاعها في نزول. والفرد محمول على تيارها في هذا الصعود يخدمها بلا عناء ولا تكلف.
أما في حالة التأخر والضعف فتتضخم مسؤولية الفرد، إذ يرى كل حركة من حركاته قادرة على الاضرار بأمته، في حين تصبح خدمتها شاقة متعذرة، فاهتمامه بحياته الخاصة ونفعه الخاص لا يكون اهمالا للخدمة العامة فحسب، بل في أكثر الاحيان موجها ضدها. ولا يعود الفرد خلية في جسم الأمة، اذا تغذى غذاها في الوقت نفسه، بل خصما لهذا الجسم لا يقوى الا من ضعفه ولا يسمن الا من جوعه.
واذا أراد أن يدخل الحياة العامة رأى بعد حين أنه بالرغم من رغبته الخالصة في الخدمة، منقاد بمنطق قاهر خفي لان يسخرها لنفسه ومصلحته، ويعيش منها وعليها بعد ان كان ينوي تسخير نفسه وعيشه لنفعها ولخدمتها، ويتضح له أن مساهمته في العمل العام بغية إيصاله إلى هدف مشترك واحد للأمة، لن تؤدي عندما تضاف إلى مساهمة الآخرين، إلا إلى وصول بعض الأفراد إلى أهداف خاصة مختلفة، أي إلى إبعاد الأمة عن هدفها المطلوب.
ذلك أن الأمة في هذه الحالة مسيّرة منفعلة، خاضعة لسلسلة من العوامل والظروف البعيدة والقريبة، الداخلية والخارجية. فبين ظروف الأمة ومصلحتها، بين قدرتها وإرادتها تضارب وتناقض. أي أن عملها عكس نفعها، وواقعها نقيض حقيقتها. وانما تقدر ما لا تريد وتريد ما لا تقدر عليه، فحياتها سلبية وتيارها غائر، اذا تصدى له الفرد شد اليه وغار معه. في مثل هذه الحالة لا يجدي علم بعض الأفراد وكفاءتهم وإخلاص بعضهم الآخر ونزاهته، وغيرة الغيورين وتضحيات المضحين، لأن الآلة الكبرى قادرة أن تتحمل مثل هذا الشذوذ لتتمثله وتهضمه وتطبعه بحركتها وتحوله إلى غذاء لها بعد حين، كما يقدر المجتمع الراقي السليم على تحمل بعض الفاسدين وحتى على الإفادة من فسادهم.
وكل علم يبقى ضمن إطار هذه الآلة هو ناقص، وكل إخلاض مشوب، وكل نزاهة مشتبهة. ولو كان العلم صحيحا لفك صاحبه من هذه الآلة وأخرجه من سجنها ووضعه في موضع حر مجرد يشرف منه عليها ليحيطها بنظرته ويفهم سر تركيبها، ليعرف كيف يهدمها. ولو كان الإخلاص تاما لدفع صاحبه إلى الانفصال عنها والتمرد عليها بدلا من تدعيم قوة الفاسدين. ولو كانت النزاهة حقيقية لحرص صاحبها على نظافة أمته أكثر من حرصه على نظافة سمعته.
ان حالة كهذه تجرف وتشل وتقنط العدد الأكبر. ولكنها قد تخلق أفرادا قلائل وحيدين يصمدون ويعاكسون سيرها، فعندما يتخلى العدد الأكبر عن مسؤوليته يظهر هنا وهناك الفرد الذي يتحمل كل المسؤولية، أي مسؤولية الكل، وهذه خطوة أولى ومربية لأولئك الأفراد يجب أن يعقبها تعارفهم وتوحيد جهودهم، حتى يكونوا القوة التي تحدث في نفوس الآخرين الثقة والاطمئنان إلى أن كل جهد ينصب في هذه القوة مثمر، وانها القوة الوحيدة التي تثمر فيها الجهود. فالعمل ليس عاديا آنيا، بل تاريخيا، وليس سياسة بل رسالة لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية وتهيئة انبعاث للأمة يؤتي أكله في عصور عديدة مقبلة، وليس ينجح فيه جهد افرادي وأسلوب سطحي وإعداد مرتجل، فلا بد اذن من جبل بكامله مهيأ لان يبدع في النضال ويستمر فيه الى نهايته.
اننا اذ نذكر الجيل العربي الجديد نعني به جيلا لم يتحقق بعد وان تكن له في واقعنا ممكنات، ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل اذا لم تظهر فكرته. فالصفة المميزة له انه فكرة كله، وان عمله اشعاع لفكرته، فاذا لم تكن لم يكن. ثمة عمل يترسب منه ما يشبه الفكرة فهي من بقايا العمل وكدره وتفسخه، كعذر وتبرير. لذلك هي اسوء ما فيه وهي دوما دونه، ليس العمل اشعاعا لها بل هي تقطير لظلمته.
ولا يفهم من الجيل الجديد أنه جيل الشباب إذ ليس الشباب فكرة بل هو شرط مناسب لنموها، وقد يكون من الشباب من هم أشد من الشيوخ عداوة ومناقضة للجيل الجديد، لذلك لن تتحقق الفكرة العربية الجديدة الا في نوع معين من الشباب. واهمال هذا الفرق أدى الى فشل كل محاولات البعث التي قامت منذ سنين وما تزال لأنها اكتفت من الشباب برابطة السن وبرابطة أخرى لا تقل عنها خداعا: الثقافة الاصطلاحية. فالجيل الجديد يشترط أيضا وجود فهم معين للثقافة ونوع معين من المثقفين.
ان الوهم الذي ينسب الى السن الشابة قوة خارقة في حد ذاتها هو نفسه الذي ينتظر انتهاء الجيل القديم وموت آخر ممثل له. في حين ان هذا الجيل ليس مجرد أجسام مسنة، بل هو روح وتقاليد قادرة ان تتجسد في الأجيال الشابة الى ما شاء الله. قكما ان الجيل الجديد لا يوجد الا متى وجدت فكرته، كذلك الجيل القديم لا يموت ما لم تمت روحه وتقاليده، او بالاحرى ما لم تقتل بظهور الروح التي تنفيها. وهذا يعني ان كل اصلاح لا يتناول الفكرة الأساسية لحياة الامة هو سطحي فاشل وبالتالي ضار، وكل معالجة تهمل الجذر لتتلهى بالفروع هي اضاعة وقت. ومن هذا القبيل اهتمامنا الذهني (بالأخلاق) وفشلنا العملي فيها، فنحن نحسبها سببا وهي نتيجة، وما الفضائل المتعددة والمتنافرة أحيانا التي نطيل في ذكرها كلما كتبنا او خطبنا الا نتيجة طبيعية لموقف حيوي يجب أن يهيئه الفكر. وان هذه النظرة المعكوسة لتظهر في فهمنا لماضينا المجيد او لحياة أبطالنا، فنحن ننظر الى الأبطال من خلال ضعفنا وانحطاطنا، لذلك نحملهم احمالا من الفضائل لا يتناسب ثقلها مع ما كان لحياتهم من عفوية وطلاقة وتدفق، ولا يتفق تعددها مع ما كان لشخصيتهم من وحدة رائعة.
اذن فنحن لا نطلب جيلا مؤمنا مخلصا جريئا صبورا مضحيا فعالا بل نطلب جيلا جديدا، أي ان يكون له موقف حيوي جديد يستنبع هو نفسه الفضائل التي يتضمنها ويحتاج إليها. ان هذا الموقف لن يكون الا موقفا فكريا يمكن تحديده هكذا:
1- لا نهضة الا من الداخل، من داخل الانحطاط، تنبعث منه لتنفيه، وتستكشف اتجاهه لتعكسه، والجيل الجديد سيخرج من الواقع الفاسد ولكنه سيكون نقيضه، سيولد منه وينفصل عنه، وهو نتيجة للألم، ولا يشعر بألم الفساد إلا من عاش فيه لا منه.
2- ولكن الفساد لا يؤلم دوما ولا يؤلم أيا كان: فالألم قد يخلق ويوضح ويرهف ويجسم ويملأ بالمعنى ويعطي اتجاها. فلا بد من ألم شديد فيه معنى وله اتجاه.
3- ان معنى الألم واتجاهه متوقفان على نوع الاحكام التي يصدرها الجيل الجديد. وحياة هذا الجيل متوقفة على حكمه، لذلك وجب أن يكون حكمه حيا.
من صفات الجيل المنحط انه يحكم على الحاضر حكم مؤرخ، انه مفسر لا مؤثر، يحول الاسباب الى أعذار وقد يحول الاعذار الى مبادئ فلسفية وقواعد اخلاقية. ليس من ضرر في ان يكون حكمنا اليوم على الجاهلية حكما تفسيريا فنستكشف فيها فضائل ونجد لعيوبها اعذارا، ولكن الإسلام حكم عليها حكما حيا وهكذا أدى مهمته. فالذين يحكمون على الجيل القديم هذا الحكم التفسيري هم منه وان كانوا شبابا يافعين، لا بل هم دونه لان القصور الذين اضطر اليه الجيل القديم اضطرارا تعمده جيل الشباب تعمدا. وبما ان التحقيق هو دون المثال دوما، فالجيل الذي يتخذ من النتائج التي وصل اليها الجيل السابق مثلا وغايات سيكون حتما دونه في الخلق والعمل معا.
فالغيرة على الجيل الجديد أي على المستقبل تفرض اسلوبا معينا في وضع المسائل وعرضها ومعالجتها لان ثمة فرقا كبيرا بين وضع المسألة بشكل يوصل الى إيجاد أعذار ومسوغات أو فضائل وحسنات للجيل القديم وبين وضعها بشكل يوصل الى تكوين عقيدة ومثل ومفاهيم تمكن الجيل الجديد من القيام بمهمته التاريخية.
4- ولا يكون حكم الجيل الجديد حيا الا اذا كان له في فكره ونفسه مجتمع مثالي يستمد منه قيمه ويسأله الحكم على تفكيره وعمله. فالمجتمع الواقعي يهدد الشباب بأكبر الخطر اذ هو من جهة يرشحهم لمهام الابطال ومن جهة اخرى يرضى منهم بأبسط الاعمال. فلا بد من الترفع والتغاضي عن المقاييس الواقعية ومن استلهام مقايس المهمة التاريخية، أي المقاييس الخالدة. فالخلود ليس سير الحاضر الى المستقبل بل نقل المستقبل الى الحاضر. وان ابطال العروبة في الماضي المجيد لم يخلدوا لانهم قاموا بالاعمال العظيمة بل قاموا بالاعمال العظيمة لانهم كانوا في حياتهم يعيشون في نطاق الخلود.
5- كل ما تقدم يوصل الى هذه النتيجة: بأن الجيل الجديد لن يكون الا بانفصاله عن الجيل القديم لا في الزمن الاصطلاحي، بل في الزمن النفسي والجوهر، أي في أصل الفكرة ونظام تكونها وصلتها العضوية بمعتنقيها. هكذا نعتبر أصغر تلميذ قابل لان تتجسد فيه الفكرة العربية الجديدة أثمن وأنفع لأمته من أكبر سياسي حافل العمر بالحوادث والتجارب والخدمات. عند ظهور الاسلام كانت قيمة المسلم في كونه مسلما لان فكرة الاسلام كانت كفيلة برفعة الى مستواها، وكان فساد المشرك في كونه مشركا بصرف النظر عن مواهبه وفضائله لأن فكرة الشرك كفيلة بخفضه الى دركها وبتهديم هذه الفضائل وتبديد تلك المواهب. ذلك هو الفرق بين فكرة خلافة وفكرة عقيمة.
الانفصال هو النظرة الصحيحة الى الاتحاد الصحيح، لأن الاتحاد لا يكون في الكم بل في الجوهر والدم، واذا كان الاتحاد الكمي في حالة سلامة الجوهر قوة، فانه يعني الضعف والفوضى عندما يكون الجوهر مفقودا او مشوبا. ففي حالة الازمات الخطيرة التي تتناول جوهر الحياة ينشأ بين الكم والكيف تناقض وتضاد ويتميز العنصر الصالح بخلوه من العناصر الاخرى، وبخوفه ونفوره منها وتخويفه وتنفيره لها، أكثر من تميزه بجمعها واجتذابها. في وقت من الأوقات، وقبل البعثة، كانت الأمة العربية مجرد فكرة ومثال لا يقابلها في عالم الواقع شيء ولا يحققها شخص حي لذلك كانت قوية لانها رفضت ان تتساهل وتقبل بواقع لا يلائمها وانتظرت حتى ابدعت واقعا من فكرها ودمها واحشائها.
وفي وقت آخر عند البعثة كانت الامة العربية رجلا واحدا، وكان هذا الواحد كافيا ليمثلها في ذلك الحين والى ألوف السنين.
فالأمة ليست مجموعا عدديا بل فكرة تتجسد في هذا المجموع كله او بعضه، والأمم لا تنقرض بتناقص عدد افرادها، بل بنقص الفكرة من بينهم. وليس المجموع العددي مقدسا في حد ذاته باعتباره عددا بل باعتباره مجسدا لفكرة الأمة أو قابلا لأن يجسدها في المستقبل، لان الفكرة موجودة في حالة البذور في كل فرد من أفراد الأمة، لذلك يحق للذي تتمثل فيه ان يتكلم باسم المجموع. والزعيم في حالات ضعف الفكرة وتقلصها ليس هو الذي يحظى بالاكثرية أو الاجماع، بل بالمعارضة والخصومة، وليس هو الذي يستعيض عن الفكرة بالعدد بل يحول العدد الى فكرة، وليس هو المجمّع بل الموحّد، أي صاحب الفكرة الواحدة الذي يفرق عنها ويطرح منها كل ما يخالفها ويناقضها.
الجيل الجديد يؤمن بنفسه لانه يؤمن بأمته الخالدة، ويؤمن بأمته الخالدة وبقدرتها على أن تغلب انحطاطها، لأنه يؤمن بنفسه: ما دام هو قد خرج منها، فهي قادرة ان تخرج من نفسها، وما دام هو قد ارتفع فوقها فهي قادرة أن ترتفع فوق نفسها، وما دام هو قد انفصل عنها فهي تستطيع بعمله وتأثيره أن تنفصل عن نفسها، نفسها المنحطة الفاسدة لتعود الى ذاتها الأصلية، لتعود الأمة العربية الخالدة. ولكن كل ذلك يشترط أن يكون ثمة جيل عربي جديد.
عام 1944
في حالة رقي الأمة وقوتها تخف مسؤولية الفرد، إذ يكون قادرا على نفعها عاجزا عن الإضرار بها، ولا يكون ثمة تناقض أو اختلاف كبير بين نفعه لها وانتفاعه منها، بل تنسجم المنفعتان في أكثر الأحيان. وبتحقيق الفرد شخصيته تتحقق شخصية أمته، وبقيامه بعمله الخاص يخدم الحياة العامة، وعندما يساهم في أوقات معينة ومناسبات محدودة في العمل العام، يعرف ان مساهمته اذ تضاف الى مساهمة الآخرين تؤدي بصورة أكيدة إلى النتيجة العامة المطلوبة أو ما يقاربها.
ذلك ان الأمة في هذه الحالة تسيطر على مصيرها وظروفها الى حد كبير، فحياتها ايجابية، دافقة، وهي تصعد وكأنها من قوة اندفاعها في نزول. والفرد محمول على تيارها في هذا الصعود يخدمها بلا عناء ولا تكلف.
أما في حالة التأخر والضعف فتتضخم مسؤولية الفرد، إذ يرى كل حركة من حركاته قادرة على الاضرار بأمته، في حين تصبح خدمتها شاقة متعذرة، فاهتمامه بحياته الخاصة ونفعه الخاص لا يكون اهمالا للخدمة العامة فحسب، بل في أكثر الاحيان موجها ضدها. ولا يعود الفرد خلية في جسم الأمة، اذا تغذى غذاها في الوقت نفسه، بل خصما لهذا الجسم لا يقوى الا من ضعفه ولا يسمن الا من جوعه.
واذا أراد أن يدخل الحياة العامة رأى بعد حين أنه بالرغم من رغبته الخالصة في الخدمة، منقاد بمنطق قاهر خفي لان يسخرها لنفسه ومصلحته، ويعيش منها وعليها بعد ان كان ينوي تسخير نفسه وعيشه لنفعها ولخدمتها، ويتضح له أن مساهمته في العمل العام بغية إيصاله إلى هدف مشترك واحد للأمة، لن تؤدي عندما تضاف إلى مساهمة الآخرين، إلا إلى وصول بعض الأفراد إلى أهداف خاصة مختلفة، أي إلى إبعاد الأمة عن هدفها المطلوب.
ذلك أن الأمة في هذه الحالة مسيّرة منفعلة، خاضعة لسلسلة من العوامل والظروف البعيدة والقريبة، الداخلية والخارجية. فبين ظروف الأمة ومصلحتها، بين قدرتها وإرادتها تضارب وتناقض. أي أن عملها عكس نفعها، وواقعها نقيض حقيقتها. وانما تقدر ما لا تريد وتريد ما لا تقدر عليه، فحياتها سلبية وتيارها غائر، اذا تصدى له الفرد شد اليه وغار معه. في مثل هذه الحالة لا يجدي علم بعض الأفراد وكفاءتهم وإخلاص بعضهم الآخر ونزاهته، وغيرة الغيورين وتضحيات المضحين، لأن الآلة الكبرى قادرة أن تتحمل مثل هذا الشذوذ لتتمثله وتهضمه وتطبعه بحركتها وتحوله إلى غذاء لها بعد حين، كما يقدر المجتمع الراقي السليم على تحمل بعض الفاسدين وحتى على الإفادة من فسادهم.
وكل علم يبقى ضمن إطار هذه الآلة هو ناقص، وكل إخلاض مشوب، وكل نزاهة مشتبهة. ولو كان العلم صحيحا لفك صاحبه من هذه الآلة وأخرجه من سجنها ووضعه في موضع حر مجرد يشرف منه عليها ليحيطها بنظرته ويفهم سر تركيبها، ليعرف كيف يهدمها. ولو كان الإخلاص تاما لدفع صاحبه إلى الانفصال عنها والتمرد عليها بدلا من تدعيم قوة الفاسدين. ولو كانت النزاهة حقيقية لحرص صاحبها على نظافة أمته أكثر من حرصه على نظافة سمعته.
ان حالة كهذه تجرف وتشل وتقنط العدد الأكبر. ولكنها قد تخلق أفرادا قلائل وحيدين يصمدون ويعاكسون سيرها، فعندما يتخلى العدد الأكبر عن مسؤوليته يظهر هنا وهناك الفرد الذي يتحمل كل المسؤولية، أي مسؤولية الكل، وهذه خطوة أولى ومربية لأولئك الأفراد يجب أن يعقبها تعارفهم وتوحيد جهودهم، حتى يكونوا القوة التي تحدث في نفوس الآخرين الثقة والاطمئنان إلى أن كل جهد ينصب في هذه القوة مثمر، وانها القوة الوحيدة التي تثمر فيها الجهود. فالعمل ليس عاديا آنيا، بل تاريخيا، وليس سياسة بل رسالة لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية وتهيئة انبعاث للأمة يؤتي أكله في عصور عديدة مقبلة، وليس ينجح فيه جهد افرادي وأسلوب سطحي وإعداد مرتجل، فلا بد اذن من جبل بكامله مهيأ لان يبدع في النضال ويستمر فيه الى نهايته.
اننا اذ نذكر الجيل العربي الجديد نعني به جيلا لم يتحقق بعد وان تكن له في واقعنا ممكنات، ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل اذا لم تظهر فكرته. فالصفة المميزة له انه فكرة كله، وان عمله اشعاع لفكرته، فاذا لم تكن لم يكن. ثمة عمل يترسب منه ما يشبه الفكرة فهي من بقايا العمل وكدره وتفسخه، كعذر وتبرير. لذلك هي اسوء ما فيه وهي دوما دونه، ليس العمل اشعاعا لها بل هي تقطير لظلمته.
ولا يفهم من الجيل الجديد أنه جيل الشباب إذ ليس الشباب فكرة بل هو شرط مناسب لنموها، وقد يكون من الشباب من هم أشد من الشيوخ عداوة ومناقضة للجيل الجديد، لذلك لن تتحقق الفكرة العربية الجديدة الا في نوع معين من الشباب. واهمال هذا الفرق أدى الى فشل كل محاولات البعث التي قامت منذ سنين وما تزال لأنها اكتفت من الشباب برابطة السن وبرابطة أخرى لا تقل عنها خداعا: الثقافة الاصطلاحية. فالجيل الجديد يشترط أيضا وجود فهم معين للثقافة ونوع معين من المثقفين.
ان الوهم الذي ينسب الى السن الشابة قوة خارقة في حد ذاتها هو نفسه الذي ينتظر انتهاء الجيل القديم وموت آخر ممثل له. في حين ان هذا الجيل ليس مجرد أجسام مسنة، بل هو روح وتقاليد قادرة ان تتجسد في الأجيال الشابة الى ما شاء الله. قكما ان الجيل الجديد لا يوجد الا متى وجدت فكرته، كذلك الجيل القديم لا يموت ما لم تمت روحه وتقاليده، او بالاحرى ما لم تقتل بظهور الروح التي تنفيها. وهذا يعني ان كل اصلاح لا يتناول الفكرة الأساسية لحياة الامة هو سطحي فاشل وبالتالي ضار، وكل معالجة تهمل الجذر لتتلهى بالفروع هي اضاعة وقت. ومن هذا القبيل اهتمامنا الذهني (بالأخلاق) وفشلنا العملي فيها، فنحن نحسبها سببا وهي نتيجة، وما الفضائل المتعددة والمتنافرة أحيانا التي نطيل في ذكرها كلما كتبنا او خطبنا الا نتيجة طبيعية لموقف حيوي يجب أن يهيئه الفكر. وان هذه النظرة المعكوسة لتظهر في فهمنا لماضينا المجيد او لحياة أبطالنا، فنحن ننظر الى الأبطال من خلال ضعفنا وانحطاطنا، لذلك نحملهم احمالا من الفضائل لا يتناسب ثقلها مع ما كان لحياتهم من عفوية وطلاقة وتدفق، ولا يتفق تعددها مع ما كان لشخصيتهم من وحدة رائعة.
اذن فنحن لا نطلب جيلا مؤمنا مخلصا جريئا صبورا مضحيا فعالا بل نطلب جيلا جديدا، أي ان يكون له موقف حيوي جديد يستنبع هو نفسه الفضائل التي يتضمنها ويحتاج إليها. ان هذا الموقف لن يكون الا موقفا فكريا يمكن تحديده هكذا:
1- لا نهضة الا من الداخل، من داخل الانحطاط، تنبعث منه لتنفيه، وتستكشف اتجاهه لتعكسه، والجيل الجديد سيخرج من الواقع الفاسد ولكنه سيكون نقيضه، سيولد منه وينفصل عنه، وهو نتيجة للألم، ولا يشعر بألم الفساد إلا من عاش فيه لا منه.
2- ولكن الفساد لا يؤلم دوما ولا يؤلم أيا كان: فالألم قد يخلق ويوضح ويرهف ويجسم ويملأ بالمعنى ويعطي اتجاها. فلا بد من ألم شديد فيه معنى وله اتجاه.
3- ان معنى الألم واتجاهه متوقفان على نوع الاحكام التي يصدرها الجيل الجديد. وحياة هذا الجيل متوقفة على حكمه، لذلك وجب أن يكون حكمه حيا.
من صفات الجيل المنحط انه يحكم على الحاضر حكم مؤرخ، انه مفسر لا مؤثر، يحول الاسباب الى أعذار وقد يحول الاعذار الى مبادئ فلسفية وقواعد اخلاقية. ليس من ضرر في ان يكون حكمنا اليوم على الجاهلية حكما تفسيريا فنستكشف فيها فضائل ونجد لعيوبها اعذارا، ولكن الإسلام حكم عليها حكما حيا وهكذا أدى مهمته. فالذين يحكمون على الجيل القديم هذا الحكم التفسيري هم منه وان كانوا شبابا يافعين، لا بل هم دونه لان القصور الذين اضطر اليه الجيل القديم اضطرارا تعمده جيل الشباب تعمدا. وبما ان التحقيق هو دون المثال دوما، فالجيل الذي يتخذ من النتائج التي وصل اليها الجيل السابق مثلا وغايات سيكون حتما دونه في الخلق والعمل معا.
فالغيرة على الجيل الجديد أي على المستقبل تفرض اسلوبا معينا في وضع المسائل وعرضها ومعالجتها لان ثمة فرقا كبيرا بين وضع المسألة بشكل يوصل الى إيجاد أعذار ومسوغات أو فضائل وحسنات للجيل القديم وبين وضعها بشكل يوصل الى تكوين عقيدة ومثل ومفاهيم تمكن الجيل الجديد من القيام بمهمته التاريخية.
4- ولا يكون حكم الجيل الجديد حيا الا اذا كان له في فكره ونفسه مجتمع مثالي يستمد منه قيمه ويسأله الحكم على تفكيره وعمله. فالمجتمع الواقعي يهدد الشباب بأكبر الخطر اذ هو من جهة يرشحهم لمهام الابطال ومن جهة اخرى يرضى منهم بأبسط الاعمال. فلا بد من الترفع والتغاضي عن المقاييس الواقعية ومن استلهام مقايس المهمة التاريخية، أي المقاييس الخالدة. فالخلود ليس سير الحاضر الى المستقبل بل نقل المستقبل الى الحاضر. وان ابطال العروبة في الماضي المجيد لم يخلدوا لانهم قاموا بالاعمال العظيمة بل قاموا بالاعمال العظيمة لانهم كانوا في حياتهم يعيشون في نطاق الخلود.
5- كل ما تقدم يوصل الى هذه النتيجة: بأن الجيل الجديد لن يكون الا بانفصاله عن الجيل القديم لا في الزمن الاصطلاحي، بل في الزمن النفسي والجوهر، أي في أصل الفكرة ونظام تكونها وصلتها العضوية بمعتنقيها. هكذا نعتبر أصغر تلميذ قابل لان تتجسد فيه الفكرة العربية الجديدة أثمن وأنفع لأمته من أكبر سياسي حافل العمر بالحوادث والتجارب والخدمات. عند ظهور الاسلام كانت قيمة المسلم في كونه مسلما لان فكرة الاسلام كانت كفيلة برفعة الى مستواها، وكان فساد المشرك في كونه مشركا بصرف النظر عن مواهبه وفضائله لأن فكرة الشرك كفيلة بخفضه الى دركها وبتهديم هذه الفضائل وتبديد تلك المواهب. ذلك هو الفرق بين فكرة خلافة وفكرة عقيمة.
الانفصال هو النظرة الصحيحة الى الاتحاد الصحيح، لأن الاتحاد لا يكون في الكم بل في الجوهر والدم، واذا كان الاتحاد الكمي في حالة سلامة الجوهر قوة، فانه يعني الضعف والفوضى عندما يكون الجوهر مفقودا او مشوبا. ففي حالة الازمات الخطيرة التي تتناول جوهر الحياة ينشأ بين الكم والكيف تناقض وتضاد ويتميز العنصر الصالح بخلوه من العناصر الاخرى، وبخوفه ونفوره منها وتخويفه وتنفيره لها، أكثر من تميزه بجمعها واجتذابها. في وقت من الأوقات، وقبل البعثة، كانت الأمة العربية مجرد فكرة ومثال لا يقابلها في عالم الواقع شيء ولا يحققها شخص حي لذلك كانت قوية لانها رفضت ان تتساهل وتقبل بواقع لا يلائمها وانتظرت حتى ابدعت واقعا من فكرها ودمها واحشائها.
وفي وقت آخر عند البعثة كانت الامة العربية رجلا واحدا، وكان هذا الواحد كافيا ليمثلها في ذلك الحين والى ألوف السنين.
فالأمة ليست مجموعا عدديا بل فكرة تتجسد في هذا المجموع كله او بعضه، والأمم لا تنقرض بتناقص عدد افرادها، بل بنقص الفكرة من بينهم. وليس المجموع العددي مقدسا في حد ذاته باعتباره عددا بل باعتباره مجسدا لفكرة الأمة أو قابلا لأن يجسدها في المستقبل، لان الفكرة موجودة في حالة البذور في كل فرد من أفراد الأمة، لذلك يحق للذي تتمثل فيه ان يتكلم باسم المجموع. والزعيم في حالات ضعف الفكرة وتقلصها ليس هو الذي يحظى بالاكثرية أو الاجماع، بل بالمعارضة والخصومة، وليس هو الذي يستعيض عن الفكرة بالعدد بل يحول العدد الى فكرة، وليس هو المجمّع بل الموحّد، أي صاحب الفكرة الواحدة الذي يفرق عنها ويطرح منها كل ما يخالفها ويناقضها.
الجيل الجديد يؤمن بنفسه لانه يؤمن بأمته الخالدة، ويؤمن بأمته الخالدة وبقدرتها على أن تغلب انحطاطها، لأنه يؤمن بنفسه: ما دام هو قد خرج منها، فهي قادرة ان تخرج من نفسها، وما دام هو قد ارتفع فوقها فهي قادرة أن ترتفع فوق نفسها، وما دام هو قد انفصل عنها فهي تستطيع بعمله وتأثيره أن تنفصل عن نفسها، نفسها المنحطة الفاسدة لتعود الى ذاتها الأصلية، لتعود الأمة العربية الخالدة. ولكن كل ذلك يشترط أن يكون ثمة جيل عربي جديد.
عام 1944
مواضيع مماثلة
» الجيل العربي الجديد ميشيل عفلق
» لا للعدوان على ليبيا... لا للتحالف الاستعماري الجديد-حزب البعث العربي الاشتراكي الارد
» ورقة مقدمة من حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي إلى الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة
» معركة المستقبل العربي
» تصريح المتحدث الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق نشجب الجرائم البشعة التي ترتكب ضد أبناء الشعب العربي الليبي الشقيق
» لا للعدوان على ليبيا... لا للتحالف الاستعماري الجديد-حزب البعث العربي الاشتراكي الارد
» ورقة مقدمة من حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي إلى الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة
» معركة المستقبل العربي
» تصريح المتحدث الرسمي لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق نشجب الجرائم البشعة التي ترتكب ضد أبناء الشعب العربي الليبي الشقيق
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: مكتبة الحزب والجبهة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى