الوحدة العربية والأقليات القومية
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: مكتبة الحزب والجبهة
صفحة 1 من اصل 1
الوحدة العربية والأقليات القومية
الوحدة العربية والأقليات القومية
من كتابات القائد الموئسس احمد ميشيل عفلق
عداد"الرفيق بشيرالغزاوي
الشهيد الشريف الهندي(1) من الشخصيات البارزة التي إذا رآها أحدنا لا يمكن أن ينساها. لقاؤنا كان لمرة واحدة ولكنه ترك أثرا عميقا في نفسي، وأقدر أنه هو نفس الأثر الذي لدى كل من عرف شخصية المرحوم الشريف الهندي. مزايا بارزة ومن الصعب تعويضها، ولكن من المفيد دوما أن نتذكر هذه المزايا التي كان لها فضل كبير بإبراز قضية القطر السوداني، وفي وضع القضية السودانية بمكانها الطبيعي ضمن مسار القضية العربية ككل في علاقتها العضوية والحية والتاريخية بنهضة الأمة العربية الحديثة.
هذا ما يجدر بنا جميعا، بالقادة والمناضلين في السودان، أن يحرصوا عليه. على المستوى الذي وضع الشهيد قضية السودان فيه، فلا يجوز مطلقا أن ينخفض هذا المستوى أو ينحرف بشكل من الأشكال في ناحيتين جوهريتين، فهي قضية شعبية -قضية شعب وجماهير- وهي قضية أمة، أو قطر هو جزء من وطن كبير ومن أمة كبيرة لها قضية كبيرة.
الطريق مازال طويلا وصعبا ولكن نشعر كما يشعر المناضلون في كل مكان بالثقة بأنه بإذن الله سنصل الى تحقيق الأهداف. عندنا يقين، شعور باليقين، لأن قضيتنا عادلة وتاريخنا مليء بالحوافز والملهمات وبالدوافع النبيلة، ومرأى التردي والتمزق والانكسار مؤلم، ولكن لا يضعضع الإيمان بل يعززه ويقويه، بل نشعر بأننا نقترب أكثر فأكثر من تحقيق اهدافنا، من ملامسة حقيقتنا، حقيقة الأمة، حقيقة الإنسان العربي المتحفز الى التجدد والى الإنبعاث بكامل إنسانيته، فالذي تحقق في القطر العراقي يمكن أن يؤخذ كنموذج للتطبيق الصادق المخلص والمبدع أيضا للفكر القومي الجديد. ويمكن أن يكون دليلا جديدا بعد مئات الأدلة على أن شعبنا العربي في كل أجزاء الوطن الكبير مهيأ للعطاء، مهيأ للتجاوب مع أعلى مستويات الثورة والنضال والخلق والبناء عندما يخاطَب بصدق، عندما تتوفر القيادة الشجاعة والواعية وتلامس أعماقه، تحس وجدانه، وعندها لا يكون لعطائه حدود ويعبر عن حبه للحياة بالإستشهاد والتضحية بدون حساب، كما يعبر عنها في مجالات أخرى، فالمعركة هذه ايضا ترجعنا إلى ذكرى الشهيد فقيدنا الغالي الشريف الهندي، بأنه كان من أوائل المتجاوبين معها والفاهمين لحقيقتها ولأغراضها ولمعانيها. وقد سمعت له حديثا في التلفزيون ولم أتمالك من إظهار إعجابي بهذا الكلام الملهم، لهذه النظرة العميقة، لهذه السجية الصافية، ولم أكن بعد قد التقيت بالأخ الفقيد.
معركة العراق إمتحان واختبار لمستوى من النفوس وعظمة النفس وعمق الوعي، وصفاء النظرة، لأنها ليست كالمعارك التقليدية والمألوفة، تبقى لأمد طويل صعبة الفهم إلا على الذين يعيشون في داخلها، ويعيشونها ويتفاعلون معها. ولعلها الآن أصبحت مفهومة الى حد جيد من الإخوة العرب في ديارهم البعيدة. مع ذلك هي فعلا من النوع الذي يتحدى الأشياء التقليدية، يتحدى الفكر، وتتطلب استعدادا للنظرة الجديدة والعميقة، فهي دفاعية وأخذت شكل الهجوم، وهي قومية وأخذت شكل القطر أو قضية قطر، وفيها إشكالات استغلت من قبل الأعداء ومن المنافسين والذين لا يرتاحون لظهور حالة صحية، حالة قوة وعافية وتقدم حقيقي في أي جزء من اجزاء الوطن العربي، لتطفئ الشعلة التي ظهرت في العراق، وليجعلوا من هذه الحرب مأساة جديدة وكبيرة تضاف الى مآسي الأمة العربية في هذا العصر، لأن المخطط كان يريد شرا بالعراق، كان يمكن أن يؤدي الى إنهيار عام والى يأس لو أن الاعداء يستطيعون أن يحققوا كل أغراضهم ولكن هذا ضد الطبيعة، ضد طبيعة الأشياء. والحمد لله أن عوامل الصدق والقوة الصادقة ظهرت، تجلت، أعلنت عن وجودها من خلال هذا الإمتحان القاسي، من خلال نيران الحرب لمع الجوهر وتألق ولا نعتبر ذلك إلا بداية موفقة لتجربة تستلهم روح الأمة، وتستلهم حاجات الشعب العربي في هذا العصر وتعطشه الى الحياة الجديدة، الى البناء، الى التقدم والمساهمة في الحضارة العالمية.
وقد وجدنا في شعبنا العربي في السودان تجاوبا لم نفاجأ به، ولكننا قدرناه عظيم التقدير، ونعرف بأن النظام أراد أن يحسن سمعته بتبني قضية عبر عنها الشعب قبل النظام، وكانت تعبيرا عفويا وطبيعيا عن عروبة السودان من جهة، وعن وعيه الجديد، عن المستوى الجديد من الوعي القومي والإجتماعي الذي بلغته الطلائع الوطنية الثورية في القطر السوداني.
حالة الأمة العربية فيها نواحي تدمي القلب، ويكفي ما شاهدناه في هذا الصيف الرهيب الذي مر من الهجمة الاستعمارية الصهيونية الجديدة، ولكن نحن مؤمنون بأن أمتنا هي الأصل، والاعداء هم دخلاء، لا يمكن ان يكون لهم جذور في أرضنا. أمتنا قادرة دوما أن تحول الهزائم والمآسي الى دروس والى فوائد تضاف الى تجربتها في سبيل تمتين أسس النهضة، وان الأعداء مهما حاولوا فوجودهم مؤقت وعملهم سيبقى على السطح. ونقول بأننا مع حرصنا على أن لا نضيع ولو جزءا بسيطا من الوقت، لكن نقول قد يكون في هذه المآسي فائدة لأننا مازلنا بحاجة الى تعميق وعينا، الى إنضاج تجربتنا، الى إتقان وسائلنا، الى شمولية أكثر في تخطيطنا للنضال وفي توحيد نضالنا، فإن هذه النكسات المؤقتة تكون مناسبة للمراجعة وللنقد الذاتي ولتجديد الفكر، وتجديد الحيوية، واستئناف السير بهمة أكبر وبنظرة أصلب.
ان المنطلق لحل مشكلة الأقليات هو منطلق واحد لا يتغير، هو انسانية قوميتنا العربية، المنطلق بأن قوميتنا ليست هي القومية المتعصبة، ليست هي القومية الضيقة، ليست هي القومية المستعلية والهادفة الى التوسع والى إستعباد الآخرين. قوميتنا إمتزجت بروح الاسلام، الاسلام هو من روح العروبة ايضا. فإذن نحن نؤمن بأننا أقدر من أية امة على حل مشكلة الأقليات، منطلقين من هذه الروح، من تراثنا، من مراعاة واقعنا ومصلحتنا القومية، مصلحتنا هي في التآخي وليست في إبقاء عوامل وأسباب للتناحر الداخلي، أو لترك ثغرات يستغلها الأعداء في داخل بنياننا القومي.
الإشارة الى الفروق تعني أن كل قطر لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار واقعه الحي ويحاول ان يجد الحل الملائم، ليس هناك شيء جاهز يطبق حرفيا في كل مكان.
الأكراد شعب شارك الأمة العربية من قرون عديدة، توحد معها في الاسلام وشارك في معاركها القومية المصيرية ورد الغزوات الصليبية، وغزوات التتار، فهذا التمازج، هذه المشاركة، هذا اللقاء هو الأساس. ماذا يطلب الأكراد؟ التحرر وتوحيد شعبهم وتحقيق مصلحتهم القومية؟ إذا كانوا ينشدون التحرر فالأمة العربية هي في معركة تحرر كبرى، هي أهم معارك هذا العصر فليس من المعقول أن تتناقض حركتهم للتحرر مع حركة الأمة العربية وإنما العكس هو الصحيح، الانسجام والتعاون والتحالف ضد العدو المشترك، ضد الاستعمار، ضد كل أعداء الشعوب وأعداء حرية الشعوب والمستغلين لتخلف الشعوب، شعوب العالم الثالث ولتجزئتها، هل وحد الاكراد شعبهم ولم يبق غير القسم الموجود في العراق؟ أم إنهم بعددهم موجودون خارج العراق وتحت ظروف قمعية وظروف لا تسمح لهم أو تعترف لهم بأية حرية أو بأية مقومات خاصة. فإذن الحزب خاطبهم باللغة الصريحة الواضحة بأنه لا يمكن إلا أن نكون نحن وإياكم في صف واحد ضد الاستعمار. لا يمكن إلا أن نكون نحن وإياكم في صف واحد ضد الأوضاع الرجعية الداخلية، ضد الحكم الاقطاعي، ضد اوضاع التخلف. أنتم أيضا في حالة نضال للتحرر ونحن كذلك نبني تجربة ثورية ضد الأوضاع الجائرة والمتخلفة. فإن ما يطلبون من تحقيق لشخصيتهم في وضعهم في العراق، أعطي لهم، لغتهم، تقاليدهم، شؤونهم الادارية، ولكن هل يمكن لهذا الجزء الذي هو أصغر الأجزاء -هم في إيران أكثر عددا بضعف أو أكثر وفي تركيا كذلك- هل لهذا الجزء الذي يضم مليونين أو ثلاثة ملايين، هل يكون في مأمن من مؤامرات الدول الكبرى والدول الأجنبية المعادية للأمة العربية عندما يستقل، بمعنى ينفصل عن العراق؟
نأخذ الواقع الذي كان قبل الاتفاق مع الاكراد. القيادة التي كانت قيادة اقطاعية متخلفة، فهي باسم التحرر الوطني للأكراد كانت تتستر وتعمل على الانفصال ضمن مخططات الاستعمار والصهيونية وإسرائيل. فالتعاون مع اسرائيل ومع القوى الاستعمارية والامبريالية كان صريحا ولم يكن فيه أي لبس. هذا ما فعله البرزاني في الطور الذي كان فيه زعيما للحركة، الإنحراف لدرجة الخيانة. باسم تحرير هذا العدد القليل يجري التحالف مع اعداء الشعوب كلها. إن هذا الخطر قد أزيل وصارت هناك تجربة نموذجية للحل في العراق، وجاءت الظروف وساعدت على تعميقها أيضا، ومازال المجال أمامها المزيد من التعميق والتفاعل، فمثلما أن هذا الجزء من الشعب الكردي ما زال عليه أن ينتظر تحرر الاجزاء الأخرى وبعدها يفكر في الوحدة. كذلك فإن أمام العراق أيضا مهمة أن يساهم في معركة التحرير العربية وان يتوحد مع الأقطار الاخرى، وأثناء هذه المسيرة نكون قد وضعنا بعض أفكارنا موضع التطبيق وعلى محك التجربة، بأن نظرتنا الى الشعوب الأخرى وخاصة الى الشعوب التي بيننا وبينها إشتراك في التأريخ، إشتراك في القيم الروحية، إشتراك في الثقافة، إشتراك في المصلحة، أن تكون علاقة قائمة على الاحترام لشخصيتهم وفيها أيضا إنسجام مع أهداف تجمع الجميع، وتؤمن مصلحة الجميع، ونحن لو إنطلقنا في خيالنا الى المستقبل الذي تكون فيه الأمة العربية قد تحررت وتوحدت، هل يضيرنا أن يكون هناك شعب كردي مؤلف من عشرة ملايين أو أكثر، وأن يكون بمثابة الاخ والشقيق للأمة العربية، وان يكون هناك تعاون وأن يكون هناك تفاعل؟ نحن كعرب نساعد على تحريرهم، نساعد أخوتنا الاكراد على متابعة تحرير أجزاء وطنهم وشعبهم وتوحيده، ولكن ضمن أهداف مشتركة، ضمن أهداف ومصلحة مشتركة، ما دام هناك استعمار وهناك أطماع عند الأقوياء لاستغلال الأقل قوة منهم.
بالنسبة لجنوب السودان أنتم أعرف، أنا فقط بينت الأشياء الإيجابية التي تبرز العمق التاريخي والتواصل والاستمرار والحضور الراهن للعلاقة الأخوية ما بين العرب والاكراد، لكن ليس معنى ذلك أنه مع جنوب السودان ليس هناك مجال للالتقاء والتفاهم، فالإستعداد الدائم عندنا لاستيعاب الخصوصيات ولفهم وضع كل أقلية، واحترام شخصيتها، هو من قيمنا الأساسية، من القيم الداخلة في قوميتنا وفي تراثنا، وبما تقتضيه المصلحة المشتركة.
من المهم أن نعمل دوما في أفق تأريخي، وبقناعتي إن النظرة البعيدة التاريخية تعطينا وسائل أوفر، ومرونة أكثر، وصوابا في العمل، في الممارسة، لأن ننظر الى المستقبل الذي تتحقق فيه الوحدة العربية. الوحدة العربية بتقديرنا ستغير وجه العالم. هي ليست فقط خيراً لأبنائها العرب، وإنما ستكون عنصرا جديدا وحاسما في تغيير أشياء كثيرة لمصلحة الحرية، لمصلحة العدالة، لمصلحة السلام بين الشعوب. فنحن الآن في حالة تمزق وتجزئة منكرة، ودول العالم الثالث تتطلع الينا، تنظر الى العرب والى الأمة العربية التي لم تتحقق في كيان سياسي. مع ذلك هناك اعتراف ضمني بأنها هي الملاذ، هي الجديرة بأن تقود. فما بالنا عندما نزداد قربا من تحقيق أهدافنا، تحقيق الوحدة والنهضة، لأن الوحدة لن تتحقق إلا بالنهضة في وجه الإستعباد وفي وجه الإستغلال.
فالأقليات إذن مع هذا التدرج في طريق الوحدة، ستتحرر من اللعب الإستعماري فيها ومن تحريضها، وتستقل في تفكيرها، وفي رؤية مصلحتها الحقيقية في أن تكون شريكة، وليس محكومة، وإنما شريكة لهذه الأمة التي أهلها التأريخ لأن تكون ذات وزن عالمي كبير.
والسلام عليكم.
16/12/1982
(1) من حوار مع وفد الحزب الديمقراطي السوداني في 16/12/1982
من كتابات القائد الموئسس احمد ميشيل عفلق
عداد"الرفيق بشيرالغزاوي
الشهيد الشريف الهندي(1) من الشخصيات البارزة التي إذا رآها أحدنا لا يمكن أن ينساها. لقاؤنا كان لمرة واحدة ولكنه ترك أثرا عميقا في نفسي، وأقدر أنه هو نفس الأثر الذي لدى كل من عرف شخصية المرحوم الشريف الهندي. مزايا بارزة ومن الصعب تعويضها، ولكن من المفيد دوما أن نتذكر هذه المزايا التي كان لها فضل كبير بإبراز قضية القطر السوداني، وفي وضع القضية السودانية بمكانها الطبيعي ضمن مسار القضية العربية ككل في علاقتها العضوية والحية والتاريخية بنهضة الأمة العربية الحديثة.
هذا ما يجدر بنا جميعا، بالقادة والمناضلين في السودان، أن يحرصوا عليه. على المستوى الذي وضع الشهيد قضية السودان فيه، فلا يجوز مطلقا أن ينخفض هذا المستوى أو ينحرف بشكل من الأشكال في ناحيتين جوهريتين، فهي قضية شعبية -قضية شعب وجماهير- وهي قضية أمة، أو قطر هو جزء من وطن كبير ومن أمة كبيرة لها قضية كبيرة.
الطريق مازال طويلا وصعبا ولكن نشعر كما يشعر المناضلون في كل مكان بالثقة بأنه بإذن الله سنصل الى تحقيق الأهداف. عندنا يقين، شعور باليقين، لأن قضيتنا عادلة وتاريخنا مليء بالحوافز والملهمات وبالدوافع النبيلة، ومرأى التردي والتمزق والانكسار مؤلم، ولكن لا يضعضع الإيمان بل يعززه ويقويه، بل نشعر بأننا نقترب أكثر فأكثر من تحقيق اهدافنا، من ملامسة حقيقتنا، حقيقة الأمة، حقيقة الإنسان العربي المتحفز الى التجدد والى الإنبعاث بكامل إنسانيته، فالذي تحقق في القطر العراقي يمكن أن يؤخذ كنموذج للتطبيق الصادق المخلص والمبدع أيضا للفكر القومي الجديد. ويمكن أن يكون دليلا جديدا بعد مئات الأدلة على أن شعبنا العربي في كل أجزاء الوطن الكبير مهيأ للعطاء، مهيأ للتجاوب مع أعلى مستويات الثورة والنضال والخلق والبناء عندما يخاطَب بصدق، عندما تتوفر القيادة الشجاعة والواعية وتلامس أعماقه، تحس وجدانه، وعندها لا يكون لعطائه حدود ويعبر عن حبه للحياة بالإستشهاد والتضحية بدون حساب، كما يعبر عنها في مجالات أخرى، فالمعركة هذه ايضا ترجعنا إلى ذكرى الشهيد فقيدنا الغالي الشريف الهندي، بأنه كان من أوائل المتجاوبين معها والفاهمين لحقيقتها ولأغراضها ولمعانيها. وقد سمعت له حديثا في التلفزيون ولم أتمالك من إظهار إعجابي بهذا الكلام الملهم، لهذه النظرة العميقة، لهذه السجية الصافية، ولم أكن بعد قد التقيت بالأخ الفقيد.
معركة العراق إمتحان واختبار لمستوى من النفوس وعظمة النفس وعمق الوعي، وصفاء النظرة، لأنها ليست كالمعارك التقليدية والمألوفة، تبقى لأمد طويل صعبة الفهم إلا على الذين يعيشون في داخلها، ويعيشونها ويتفاعلون معها. ولعلها الآن أصبحت مفهومة الى حد جيد من الإخوة العرب في ديارهم البعيدة. مع ذلك هي فعلا من النوع الذي يتحدى الأشياء التقليدية، يتحدى الفكر، وتتطلب استعدادا للنظرة الجديدة والعميقة، فهي دفاعية وأخذت شكل الهجوم، وهي قومية وأخذت شكل القطر أو قضية قطر، وفيها إشكالات استغلت من قبل الأعداء ومن المنافسين والذين لا يرتاحون لظهور حالة صحية، حالة قوة وعافية وتقدم حقيقي في أي جزء من اجزاء الوطن العربي، لتطفئ الشعلة التي ظهرت في العراق، وليجعلوا من هذه الحرب مأساة جديدة وكبيرة تضاف الى مآسي الأمة العربية في هذا العصر، لأن المخطط كان يريد شرا بالعراق، كان يمكن أن يؤدي الى إنهيار عام والى يأس لو أن الاعداء يستطيعون أن يحققوا كل أغراضهم ولكن هذا ضد الطبيعة، ضد طبيعة الأشياء. والحمد لله أن عوامل الصدق والقوة الصادقة ظهرت، تجلت، أعلنت عن وجودها من خلال هذا الإمتحان القاسي، من خلال نيران الحرب لمع الجوهر وتألق ولا نعتبر ذلك إلا بداية موفقة لتجربة تستلهم روح الأمة، وتستلهم حاجات الشعب العربي في هذا العصر وتعطشه الى الحياة الجديدة، الى البناء، الى التقدم والمساهمة في الحضارة العالمية.
وقد وجدنا في شعبنا العربي في السودان تجاوبا لم نفاجأ به، ولكننا قدرناه عظيم التقدير، ونعرف بأن النظام أراد أن يحسن سمعته بتبني قضية عبر عنها الشعب قبل النظام، وكانت تعبيرا عفويا وطبيعيا عن عروبة السودان من جهة، وعن وعيه الجديد، عن المستوى الجديد من الوعي القومي والإجتماعي الذي بلغته الطلائع الوطنية الثورية في القطر السوداني.
حالة الأمة العربية فيها نواحي تدمي القلب، ويكفي ما شاهدناه في هذا الصيف الرهيب الذي مر من الهجمة الاستعمارية الصهيونية الجديدة، ولكن نحن مؤمنون بأن أمتنا هي الأصل، والاعداء هم دخلاء، لا يمكن ان يكون لهم جذور في أرضنا. أمتنا قادرة دوما أن تحول الهزائم والمآسي الى دروس والى فوائد تضاف الى تجربتها في سبيل تمتين أسس النهضة، وان الأعداء مهما حاولوا فوجودهم مؤقت وعملهم سيبقى على السطح. ونقول بأننا مع حرصنا على أن لا نضيع ولو جزءا بسيطا من الوقت، لكن نقول قد يكون في هذه المآسي فائدة لأننا مازلنا بحاجة الى تعميق وعينا، الى إنضاج تجربتنا، الى إتقان وسائلنا، الى شمولية أكثر في تخطيطنا للنضال وفي توحيد نضالنا، فإن هذه النكسات المؤقتة تكون مناسبة للمراجعة وللنقد الذاتي ولتجديد الفكر، وتجديد الحيوية، واستئناف السير بهمة أكبر وبنظرة أصلب.
ان المنطلق لحل مشكلة الأقليات هو منطلق واحد لا يتغير، هو انسانية قوميتنا العربية، المنطلق بأن قوميتنا ليست هي القومية المتعصبة، ليست هي القومية الضيقة، ليست هي القومية المستعلية والهادفة الى التوسع والى إستعباد الآخرين. قوميتنا إمتزجت بروح الاسلام، الاسلام هو من روح العروبة ايضا. فإذن نحن نؤمن بأننا أقدر من أية امة على حل مشكلة الأقليات، منطلقين من هذه الروح، من تراثنا، من مراعاة واقعنا ومصلحتنا القومية، مصلحتنا هي في التآخي وليست في إبقاء عوامل وأسباب للتناحر الداخلي، أو لترك ثغرات يستغلها الأعداء في داخل بنياننا القومي.
الإشارة الى الفروق تعني أن كل قطر لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار واقعه الحي ويحاول ان يجد الحل الملائم، ليس هناك شيء جاهز يطبق حرفيا في كل مكان.
الأكراد شعب شارك الأمة العربية من قرون عديدة، توحد معها في الاسلام وشارك في معاركها القومية المصيرية ورد الغزوات الصليبية، وغزوات التتار، فهذا التمازج، هذه المشاركة، هذا اللقاء هو الأساس. ماذا يطلب الأكراد؟ التحرر وتوحيد شعبهم وتحقيق مصلحتهم القومية؟ إذا كانوا ينشدون التحرر فالأمة العربية هي في معركة تحرر كبرى، هي أهم معارك هذا العصر فليس من المعقول أن تتناقض حركتهم للتحرر مع حركة الأمة العربية وإنما العكس هو الصحيح، الانسجام والتعاون والتحالف ضد العدو المشترك، ضد الاستعمار، ضد كل أعداء الشعوب وأعداء حرية الشعوب والمستغلين لتخلف الشعوب، شعوب العالم الثالث ولتجزئتها، هل وحد الاكراد شعبهم ولم يبق غير القسم الموجود في العراق؟ أم إنهم بعددهم موجودون خارج العراق وتحت ظروف قمعية وظروف لا تسمح لهم أو تعترف لهم بأية حرية أو بأية مقومات خاصة. فإذن الحزب خاطبهم باللغة الصريحة الواضحة بأنه لا يمكن إلا أن نكون نحن وإياكم في صف واحد ضد الاستعمار. لا يمكن إلا أن نكون نحن وإياكم في صف واحد ضد الأوضاع الرجعية الداخلية، ضد الحكم الاقطاعي، ضد اوضاع التخلف. أنتم أيضا في حالة نضال للتحرر ونحن كذلك نبني تجربة ثورية ضد الأوضاع الجائرة والمتخلفة. فإن ما يطلبون من تحقيق لشخصيتهم في وضعهم في العراق، أعطي لهم، لغتهم، تقاليدهم، شؤونهم الادارية، ولكن هل يمكن لهذا الجزء الذي هو أصغر الأجزاء -هم في إيران أكثر عددا بضعف أو أكثر وفي تركيا كذلك- هل لهذا الجزء الذي يضم مليونين أو ثلاثة ملايين، هل يكون في مأمن من مؤامرات الدول الكبرى والدول الأجنبية المعادية للأمة العربية عندما يستقل، بمعنى ينفصل عن العراق؟
نأخذ الواقع الذي كان قبل الاتفاق مع الاكراد. القيادة التي كانت قيادة اقطاعية متخلفة، فهي باسم التحرر الوطني للأكراد كانت تتستر وتعمل على الانفصال ضمن مخططات الاستعمار والصهيونية وإسرائيل. فالتعاون مع اسرائيل ومع القوى الاستعمارية والامبريالية كان صريحا ولم يكن فيه أي لبس. هذا ما فعله البرزاني في الطور الذي كان فيه زعيما للحركة، الإنحراف لدرجة الخيانة. باسم تحرير هذا العدد القليل يجري التحالف مع اعداء الشعوب كلها. إن هذا الخطر قد أزيل وصارت هناك تجربة نموذجية للحل في العراق، وجاءت الظروف وساعدت على تعميقها أيضا، ومازال المجال أمامها المزيد من التعميق والتفاعل، فمثلما أن هذا الجزء من الشعب الكردي ما زال عليه أن ينتظر تحرر الاجزاء الأخرى وبعدها يفكر في الوحدة. كذلك فإن أمام العراق أيضا مهمة أن يساهم في معركة التحرير العربية وان يتوحد مع الأقطار الاخرى، وأثناء هذه المسيرة نكون قد وضعنا بعض أفكارنا موضع التطبيق وعلى محك التجربة، بأن نظرتنا الى الشعوب الأخرى وخاصة الى الشعوب التي بيننا وبينها إشتراك في التأريخ، إشتراك في القيم الروحية، إشتراك في الثقافة، إشتراك في المصلحة، أن تكون علاقة قائمة على الاحترام لشخصيتهم وفيها أيضا إنسجام مع أهداف تجمع الجميع، وتؤمن مصلحة الجميع، ونحن لو إنطلقنا في خيالنا الى المستقبل الذي تكون فيه الأمة العربية قد تحررت وتوحدت، هل يضيرنا أن يكون هناك شعب كردي مؤلف من عشرة ملايين أو أكثر، وأن يكون بمثابة الاخ والشقيق للأمة العربية، وان يكون هناك تعاون وأن يكون هناك تفاعل؟ نحن كعرب نساعد على تحريرهم، نساعد أخوتنا الاكراد على متابعة تحرير أجزاء وطنهم وشعبهم وتوحيده، ولكن ضمن أهداف مشتركة، ضمن أهداف ومصلحة مشتركة، ما دام هناك استعمار وهناك أطماع عند الأقوياء لاستغلال الأقل قوة منهم.
بالنسبة لجنوب السودان أنتم أعرف، أنا فقط بينت الأشياء الإيجابية التي تبرز العمق التاريخي والتواصل والاستمرار والحضور الراهن للعلاقة الأخوية ما بين العرب والاكراد، لكن ليس معنى ذلك أنه مع جنوب السودان ليس هناك مجال للالتقاء والتفاهم، فالإستعداد الدائم عندنا لاستيعاب الخصوصيات ولفهم وضع كل أقلية، واحترام شخصيتها، هو من قيمنا الأساسية، من القيم الداخلة في قوميتنا وفي تراثنا، وبما تقتضيه المصلحة المشتركة.
من المهم أن نعمل دوما في أفق تأريخي، وبقناعتي إن النظرة البعيدة التاريخية تعطينا وسائل أوفر، ومرونة أكثر، وصوابا في العمل، في الممارسة، لأن ننظر الى المستقبل الذي تتحقق فيه الوحدة العربية. الوحدة العربية بتقديرنا ستغير وجه العالم. هي ليست فقط خيراً لأبنائها العرب، وإنما ستكون عنصرا جديدا وحاسما في تغيير أشياء كثيرة لمصلحة الحرية، لمصلحة العدالة، لمصلحة السلام بين الشعوب. فنحن الآن في حالة تمزق وتجزئة منكرة، ودول العالم الثالث تتطلع الينا، تنظر الى العرب والى الأمة العربية التي لم تتحقق في كيان سياسي. مع ذلك هناك اعتراف ضمني بأنها هي الملاذ، هي الجديرة بأن تقود. فما بالنا عندما نزداد قربا من تحقيق أهدافنا، تحقيق الوحدة والنهضة، لأن الوحدة لن تتحقق إلا بالنهضة في وجه الإستعباد وفي وجه الإستغلال.
فالأقليات إذن مع هذا التدرج في طريق الوحدة، ستتحرر من اللعب الإستعماري فيها ومن تحريضها، وتستقل في تفكيرها، وفي رؤية مصلحتها الحقيقية في أن تكون شريكة، وليس محكومة، وإنما شريكة لهذه الأمة التي أهلها التأريخ لأن تكون ذات وزن عالمي كبير.
والسلام عليكم.
16/12/1982
(1) من حوار مع وفد الحزب الديمقراطي السوداني في 16/12/1982
بشير الغزاوي- عضو فعال
- عدد الرسائل : 622
العمر : 84
تاريخ التسجيل : 28/03/2010
مواضيع مماثلة
» ثورية الوحدة العربية
» من هنا بدأت مسيرتنا الى الوحدة العربية
» الوحدة العربية ومعركة تحرير فلسطين د. عصمت سيف الدولة
» الوحدة العربية وإشكالية الديمقراطية - رؤية بعثية متجدّدة
» في سبيل البعث : مقتطفات من " عصر الوحدة"
» من هنا بدأت مسيرتنا الى الوحدة العربية
» الوحدة العربية ومعركة تحرير فلسطين د. عصمت سيف الدولة
» الوحدة العربية وإشكالية الديمقراطية - رؤية بعثية متجدّدة
» في سبيل البعث : مقتطفات من " عصر الوحدة"
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: مكتبة الحزب والجبهة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى