البعث.. والتحولات الدولية من التأسيس.. إلى تسلم السلطة
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: قسم البحوث والدراسات الحزبية
صفحة 1 من اصل 1
البعث.. والتحولات الدولية من التأسيس.. إلى تسلم السلطة
البعث.. والتحولات الدولية من التأسيس.. إلى تسلم السلطة
قد تكون نهاية الخلافة العثمانية، وتحديداً نصف القرن الأخير من عمرها عاملاً أساسياً في بلورة الفكر القومي في الوطن العربي، وإعادة إحياء هذا المصطلح الذي درج بتلقائية على ألسنة المواطنين العرب وهو الوطن العربي.
لكن التلقائية هذه لم تورث الغوغائية في تحديد الجغرافيا العربية بعد أن سقط العامل الديني كأساس وحيد في تكوين الأمة والوطن، فأربعمئة عام من الخلافة لم تؤسس وطناً عثمانياً عربياً ولا وطناً بذات الهوية.
وبانتهاء الخلافة بنهاية الحرب العالمية الأولى وانتقال الجسم العربي من الحضن العثماني إلى الحضن الغربي ولنفس الأهداف الاستعمارية تعاظمت محرضات نمو الفكر القومي، واتسعت ثقافته النظرية بالتفاعل مع الثقافة الغربية المتقدمة في هذا المجال العقائدي، حيث خلقت مزاوجة بين العقيدة القومية، والنزعة التحررية بعد أن أدرك العرب أنهم محط أطماع الآخرين، وهدفاً استعمارياً اقتصادياً لهم مهما تبدلت ألوانهم وسماتهم، فالخلافة الإسلامية لم تكن أرحم من الغزوات الصليبية، ومساعدة التحالف الغربي ضد المحور بهدف الخلاص من الاستعمار العثماني لم يوصل إلى التحرر العربي، والبديل الصحيح هو تنمية الفكر القومي، كمنطلق للتحرر العربي الذي أنجز على هذا الأساس. ورغم أن نهاية الحرب العالمية الثانية أطاحت بالنزعة الاستعمارية التي حملتها النازية والفاشية على أسس قومية أظهرت أن هذه الأسس تفتقر إلى الجانب الإنساني في الفكر القومي وهو ما استفاد منه حزب البعث العربي الاشتراكي في توجهه القومي على التأكيد على البعد الإنساني في القومية العربية المرجوة. ثمة عامل آخر أضافه القوميون العرب إلى برنامجهم السياسي الذي كان بعضهم يرى في الاتحاد السوفييتي عاملا إيجابياً مضافاً إلى نهوضهم التحرري وهو عامل حقيقي لكنه تقاطع مع نظرية الكومنترن في نظرية المركز والأطراف التي رأت أن العامل القومي سيكون معوقاً، وهي رؤية ربما كانت صائبة في بناء الدولة السوفيتية، لكنها غير ذلك في الأطراف التي كان العامل القومي فيها ضمانة للاستقلال والتحرر، وهو ما أدى إلى طلاق مبكر لقوى التحرر في الوطن العربي عندما رهنت الأحزاب الشيوعية فيه خياراتها للمركز أي للدولة السوفيتية التي بدأت تبني علاقاتها الدولية على أسس سوفيتية ظهرت أولى تناقضاتها في اعتراف الدولة السوفيتية بالكيان الصهيوني المصطنع على أرض فلسطين، وهو ما أراه دائماً صفقة سياسية سوفيتية مع الغرب لإقامة جدار برلين مقابل دولة،« إسرائيل » وظهرت أولى نتائج هذه الصفقة في العدوان الثلاثي الفرنسي الإنكليزي الإسرائيلي على مصر ولا يشفع للسوفييت مسارعتهم للتهديد بالتدخل لإنهاء العدوان، حيث سبقتهم أميركا إلى هذه الخطوة، لكن لكل منهما حساباته الخاصة في ذلك بعيداً عن المصلحة العربية. هذا في الجانب الدولي.
أما في الجانب العربي فكانت تجربة الوحدة منذ قيامها حتى سقوطها بعد ثلاث سنوات تجربة أخرى مضافة، وأجمع عليها القوميون العرب بالمحاكمة العقلية، وهي أن الوحدة ليست وحدة أنظمة، وإنما وحدة مجتمعات تستبعد العاطفة القومية لصالح العامل الاجتماعي الذي تحققه الأحزاب في دورها الاجتماعي. على هذه المقدمة، يمكن بناء الموضوع في علاقة تطور الفكر القومي في الحزب على الخبرات المكتسبة ومن أن السياسة الدولية والعربية في بناء سليم للحزب يكمل نظريته للانطلاق نحو الدولة.
قد يرى البعض أن ثمة إشكالية سياسية في العنوان، فأقل المألوف هو العلاقة بين الأحزاب والسياسة الدولية بصورة مباشرة، وبالتالي ما هو معروف هو دور الأحزاب في السياسة الداخلية للدولة، والمجال الوحيد لعمل هذه الأحزاب في الساحة الدولية هو المساحة المتاحة لها من خلال الحكومات التي تمثلها في السلطة برسم التوجهات التي تراها مناسبة، وتقل أهمية هذا التدخل أمام حالة تبدل لون السلطة حسب ما تقرره صناديق الانتخابات في كل دورة انتخابية، وأبرز مثال على ذلك التحولات الأخيرة في توجهات الإدارة الأمريكية التي لم يطل عمر خياراتها لعامين متواليين، وهو ناتج انتقال الأغلبية البرلمانية الحزبية من الحزب الديمقراطي صاحب شعار التغيير في الانتخابات السابقة التي كرست ما لم يكن متوقعاً، وهو انتخاب رئيس ينتمي إلى شريحة عرقية كانت حتى مدى قريب محظورة من المساواة مع أصحاب البشرة البيضاء حتى في أبسط وسائل العيش. لكن هذا التحول في أوليات العلاقات الإنسانية في الساحة الأمريكية أفرزت معادلة وحيدة تحكم العقل الأمريكي هي أنه يمكن لأصحاب القرار في تحديد نتائج الانتخابات الأمريكية التخلي عن أخلاقيات الفصل العنصري المتجذرة في الثقافة الأمريكية، لكنها لا تساوم على نزعة الهيمنة الاستعمارية التي طبعت المجتمع الأمريكي بالإرث السياسي الذي نشأت عليه الدولة على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين الهنود الحمر. وعلى ذلك قد يكون الحزبان الوحيدان البارزان في الساحة الدولية هما الحزبان: الديمقراطي والجمهوري بسبب النفوذ المباشر لأمريكا في الساحة الدولية، بعد أن كان الحزب الشيوعي السوفييتي يتصدر هذه الميزة بوضوح.
من هذه المقدمة يمكن العودة إلى العنوان لتوضيح المساحة المتاحة لدور الأحزاب في السياسة الخارجية ومعرفة علاقة حزب البعث العربي الاشتراكي فيها.
الصورة الأكثر وضوحاً لمساحات عمل الأحزاب هي أنها تجمعات سياسية تعمل داخل كل دولة وفق برنامج سياسي يرسم السياسات الداخلية في معظم توجهاتها التي يرى فيها الحزب أهمية خاصة لخدمة المجتمع، وما يتاح لها في السياسة الدولية التي تكمل مهامها الداخلية، أي أن مساحة عملها السياسي محدد في جغرافية الدولة بشكلٍ مباشر، وخارجها بشكلٍ غير مباشر، أي أن دور الحزب منوط بمجتمع الدولة.
أما النمط الذي يقع فيه حزب البعث العربي الاشتراكي فهو يعتمد التوجه القومي على مساحة مجتمعات كثيرة متسعة الجغرافيا، ومتنوعة الثقافات وأنماط المعيشة والعقائد، لكنها تجتمع إلى عناصر كافية لكي تكون مقومات الوحدة القومية التي يمكن أن تجتمع على خصوصيات مشتركة وأهمها: عامل اللغة، وثانيها وحدة المعتقد رغم محاولات البعض التقليل من أهمية هذا العامل، يضاف إليه عوامل التاريخ والعادات وغيرها، لكن التحولات الدولية الكبيرة في زمن العولمة التي استهدفت الحدود الوطنية والقومية من أجل تفكيك وحدة المجتمع والدولة وعزل كل منهما عن الآخر بقصد إضعاف السلطات الوطنية، وتقليص دورها في إدارة مصالح مجتمعاتها حسب إمكاناتها الاقتصادية التي تعتمد التنمية المستدامة للأجيال المقبلة كواجب أخلاقي لا تّقر به حركة السوق الدولية التي تركب قطار الانفتاح الاقتصادي المخطط والمحسوم لمصلحتها.
صحيح أن حالة البعث ليست النمط الوحيد على الساحة الدولية يتجاوز حدود الدولة الصغرى إلى حلم الدولة الأكبر، فتجربة الحزب الشيوعي السوفييتي كانت أكثر اتساعاً وأكثر طموحاً في ظل الرؤية الأممية، وهي رؤية مشروعة، وحق طبيعي كحلم للمستقبل نحو عالمٍ أفضل، إ ّ لا أنها رؤية بقيت في ساحة الحلم منذ بداياتها الأولى، فرغم أن الظروف الدولية في مرحلة ما بين الحربين العالميتين كانت محكومة في جانبها الاقتصادي بالظرف الذي عجل قيام الحرب العالمية الثانية، وهي حالة الانكماش الاقتصادي الدولي، وتنامي حالة الفقر في المجتمعات كناتج لقرن من الاستعمار المباشر لمعظم دول العالم، وعودة النزعة الاستعمارية بقالب النازية كنظرية جديدة تعتمد فكرة التفوق العرقي للهيمنة على الدول الأخرى، وهو ما سرع المجتمعات للحاق بقطار الثورة البلشفية، وتسارع اتساع ثقافتها، وهي ما اعتمد تسميتها بالمركز، إ ّ لا أن الأطراف اختلفوا مع المركز على الخصوصيات الوطنية التي لم يقّر المركز بواقعيتها، وهو ما شرع حالة الانشقاقات في التوجه الأممي لصالح الوطني والقومي، كما حدث في الحزب الشيوعي الفرنسي والإيطالي وغيرهما من الأحزاب الشيوعية.
وفي العقدين الأخيرين ظهر على ساحة المجتمعات الدولية ما سمي بحزب الخضر، وهو نسخ متنوعة لأحزاب وطنية محلية لا يجمعها دستور واحد، وإنما رؤية مشتركة لمشكلات البيئة، والمخاوف التي تتهدد مستقبل الكرة الأرضية والبشرية وهو ما يؤمن لها إمكانية التنسيق في نشاطاتها حسب ظروف كل حزب في كل دولة لكنه لا يضعها في وحدة تنظيمية واحدة. لكن حال حزب البعث العربي الاشتراكي تختلف عن حال الأحزاب المذكورة بما يخص بعدها الدولي من حيث مساحة جغرافية نظريته المحددة في الوطن العربي، وهي مساحة كبيرة نسبياً، لكنها نظرية ذات بعد قومي ترى فيه معظم المجتمعات العربية ما يتوافق مع تطلعاتها، وقد يكون الحامل القومي لنظرية الحزب أهم عوامل استمراريته على المدى البعيد بسبب عودة الحياة إلى أهمية العامل القومي في حياة المجتمعات بعد عقود عديدة من الصراع الإيديولوجي مع أصحاب الرؤية الأممية على الساحة العربية من جانب، وبسبب التبدلات التي طرأت على السياسة الدولية منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، ولا أعني هنا غياب المنافس الإيديولوجي أي الشيوعية التي أقرّت بضرورة الحامل القومي في المجتمعات، وإن لم يكن بشكلٍ رسمي، بل من خلال التعاطي معه كواقع يصعب تجاوزه، وذلك منذ ثمانينيات القرن الماضي.
إن ما يجعلني أرى زيادة الضرورة لمحورية العامل القومي الذي شكل الأساس في الحركات التحررية في النصف الأول من القرن الماضي، واتساع مساحة القناعة بضرورته، هو عودة النزعة الاستعمارية بوجهها الجديد على متن قطار العولمة التي تديرها القوة الاستعمارية الوحيدة في هذا القرن الجديد وهي الولايات المتحدة الأمريكية. ومن خلال قراءة واقع وتاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي يمكن أن نتبين مؤشرات تجذره في معظم أقطار الوطن العربي رغم المعاناة والحظر في أنظمة رسمية عربية من خلال القراءات التالية :
رغم صعوبة التواصل، وضعف وسائل الاتصال في العقود الأولى التي تلت مؤتمره التأسيسي بدأت مسيرة انتشاره وتغلغله في المجتمعات العربية تجري بوتيرة تسبق الإمكانيات المتاحة.
رغم الانتكاسات التي تعرضت لها بنيته التنظيمية في أكثر من قطرٍ عربي وخصوصاً مواقعه الرئيسة سورية والعراق، ففي الأولى تم حل التنظيم ثمناً للوحدة مع مصر وبقي في حالة الحظر الرسمي طيلة سنوات الوحدة، لكنه لم يتأثر بالحظر لأنه بقي حياً في حاضنه الطبيعي وهو المجتمع العربي السوري، وأثبت هذه الحيوية في ثورة الثامن من آذار، وكذلك هو حاله في العراق إلا أن البعث لم يخرج من حاضنه المجتمع العراقي، وقد نشهد له صعوداً أقوى معززاً بتجارب غنية أهمها أن الحزب لا يمكن أن يمثله شخص مهما اعتقد بقدراته القيادية أو انتمائه الحزبي ويفقد حيويته وهي سر استمراريته، إن لم تكن مرجعيته المؤسسات المنتخبة من القواعد والمنضبطة بفاعلية المؤتمرات.
تنامي منظمات الحزب في الوطن العربي أفقياً من خلال ظهور تنظيمات في أقطار جديدة، وعمودياً باتجاه توسع هذه المنظمات حتى مستوى القيادة القطرية للحزب في القطر الذي تعمل به. يمكن الاستدلال أكثر على حيوية الحزب وقابلية استمراره ونموه في المجتمعات العربية رغم التطورات الإقليمية العربية والدولية من خلال استعراض التحولات في مسار السياسة الدولية وانعكاساتها على السياسات العربية وفق المراحل المتبدلة منذ التأسيس الرسمي الذي مضى عليه ثلاثة وستون عاماً حسب التسلسل التالي :
المرحلة التمهيدية التي سبقت المؤتمر التأسيسي الأول والممتدة من عام 1943 إلى عام 1947 والتي تتضمن ثلاث سنوات تحت الاحتلال الأجنبي، والسنة الأولى من الاستقلال وهي مرحلة نهوضٍ تحرري لمعظم الدول الواقعة في قبضة الاستعمار حيث كانت توجهات التحرر في غالبها لا تمتلك أيديولوجيا متكاملة لمستقبل كل دولة بعد الاستقلال، وتعتمد الخصوصيات والإمكانات القطرية لإنجاز التحرر الوطني وهي على هذه الحال تهدف إلى الاستقلال دون أن تمتلك الرؤية لما بعده، وهي وضع مشروع دولة قابلة لتعزيز الاستقلال بما هو أهم وهو السيادة، فجاءت رؤية البعث بضرورة قيام الدولة على أسس عصرية بدءاً من النظام الجمهوري الذي يعتمد الديمقراطية في إدارة شؤون الدولة انطلاقاً من الديمقراطية المركزية التي اعتمدها البعث منهجاً في إدارة شؤون التنظيم الحزبي التي تتبنى رأي الأكثرية مع احترام رأي الأقلية وعدم التقليل من أهمية هذا الرأي وإن لم يعتمد أمام رأي الأكثرية يضبط ذلك خضوع خيارات الأكثرية لتقييم المؤتمرات الحزبية الموسعة الملزمة في تبني الرؤية الأفضل لمصلحة المجتمع. يضاف إلى تحديد شكل النظام الرسمي رؤية واقعية في إدارة الاقتصاد على أساس المنهج الاشتراكي بخصوصيته الوطنية، وهو ما أُطلق عليه بالاشتراكية العربية، تحتضن الخصوصيات الاجتماعية العربية من طاقات اقتصادية وبشرية وثقافية. كما تضمنت هذه الرؤية توجهاً جديداً في العلاقات الدولية تعتمد مناهضة الاستعمار كحالة أينما كان موقعها، ودعم الحركات التحررية في أي بقعة في العالم، واعتبار القضية الفلسطينية قضية العرب جميعاً وليست قضية الشعب الفلسطيني الذي لم يعد ينتمي إلى دولة قادرة على إدارة قضيتها في المحافل الدولية.
المرحلة الأولى بعد التأسيس حتى تبني خيار الوحدة مع مصر برؤية غير موفقة حيث كان ثمنها باهظاً وهو الشرط المريب من الطرف المصري بحل تنظيم حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر العربي السوري، ورفع الشرعية التي اكتسبها بقوة وجوده في المجتمع السوري من قبل حكومات سورية لا يتوافق منظورها السياسي معه، وغالباً ما كان رأس حربة المعارضة السياسية ضدها. وأصبحت هذه المرحلة هي الأكثر أهميةً في تاريخ الحزب، بل مرجعاً تاريخياً يمكن الاستشهاد بها من ناحية اتساع دائرة الالتفاف الشعبي حول الحزب ظهرت أبرز ملامحه عام 1956، حيث فاز مرشح الحزب على منافسه مرشح التيار الإسلامي على مقعد شاغر في البرلمان السوري عن محافظة دمشق مع إدراك الناخب الدمشقي، كما كل ناخب سوري أن أمين عام حزب البعث العربي الاشتراكي في ذلك الوقت هو ميشيل عفلق (مسيحي المعتقد)، لكن الوعي الاجتماعي العام كان يدرك بالتجربة والممارسة أن خيار « الدين السياسي » الدين خصوصية فردية وليست منهجاً سياسياً، وهو ما يعطي القناعة الراسخة أن ما يسمى لم يكن مقبولاً في المجتمع السوري في منتصف القرن الماضي، وهي قناعة مرسخة بالتراكم على مدى قرون سابقة عديدة في سورية.
وفي سياق استعراض خصوصيات هذه المرحلة لا يمكن العبور فوق الحدث الدموي الخطير في تاريخ العلاقات السياسية الحزبية في سورية وهي حادثة اغتيال الشهيد عدنان المالكي في أيار 1955 لما بدت من خروج عن المألوف في تنافس الأحزاب في سورية في السباق على كسب ود المجتمع السوري وهي من ضروريات الأحزاب للقدرة على الانتشار من جانب، ومقتضيات العملية الديمقراطية التي كانت تدار بها الدولة، وأهمها الانتخابات البرلمانية بما تشكل من مقياس حقيقي للأحزاب للوقوف على مدى توافق برامجها مع رغبات المجتمع فيما سبق من الوقت، وما هو مطلوب من هذه البرامج في المستقبل. والتميز في الحدث هو تجاوز المألوف في التنافس السياسي المحموم إلى الحد الأقصى دون الحسم بالقتل. ومن الجدير بالذكر هنا أن الحزب الذي اتهم بتدبير عملية الاغتيال دفع ثمناً أكبر بكثير مما كان يتوقعه مدبرو الاغتيال من مكاسب، وهو توقع يشير إلى أفق ضيق في حسابات الربح والخسارة بمنظور استراتيجي يرجح أن العمل تدبير فردي تحت علم الانتماء الحزبي، وخارج عن المألوف.
مرحلة الوحدة التي صار فيها الانتماء إلى البعث خروجاً عن القانون يوجب الملاحقة الأمنية في أسوأ صورها، والقضائية في أقسى عقوباتها، وهي إجراءات لم تستهدف البعث فقط، بل كل الأحزاب التاريخية في سورية التي اعتادت العمل سوية لمصلحة الوطن والمجتمع. ولأن ما بني على حسابات خاطئة سينتهي إلى نتائج خاطئة، وأن قرار قيادة الوحدة بتعطيل العمل السياسي الحقيقي وهو عمل الأحزاب في المجتمع كانت النتيجة فشل الوحدة والانتصار المؤقت للرؤية الانعزالية مقابل الارتباك في صفوف القوى القومية إلى حد الاعتقاد بهزيمتها الأبدية لكن قيام ثورة الثامن من آذار رسخت مجموعة مفاهيم بالتناغم مع عودة الحياة إلى الفكر القومي أهمها:
أن الانتماء الحزبي عقيدة شخصية لأنها انتماء وخيار ذاتي يفوق الانتماء للعقيدة الدينية كونه خياراً حراً أساسه الوعي، ومنطلقه القناعة لا الإرث.
هذا الانتماء يبقى حياً ومتحفزاً في النفوس يستيقظ بقوة عند الضرورة وهو ما حدث في الحزب بعد سقوط تجربة الوحدة وسقوط قوانينها المجحفة بحق حرية العمل الحزبي، حيث عاد الحزب ببنيته التنظيمية إلى ساحة العمل السياسي في سورية بقوة مستندة إلى تاريخ مجيد في العمل السياسي في سورية، وضمانة قبوله في المجتمع السوري أنجز بعد فترة وجيزة ثورة الثامن من آذار عام 1963.
مرحلة الانفصال: وهي مرحلة لم تعمر أكثر من ثمانية عشر شهراً، تميزت بعودة الحياة السياسية في سورية إلى شكلها الديمقراطي البرلماني الذي كان يعمل به قبل قيام الوحدة، وهي المرحلة التي يشار إليها بالعصر الذهبي للعمل الحزبي في سورية بعد أن هدأت حالة الانقلابات العسكرية بسقوط نظام أديب الشيشكلي، وإعادة ترتيب السلطة المدنية التي قادت العمل السياسي في البلاد تحت وطأة مشروعات دولية تستهدف المنطقة، كما هو الحال اليوم، لكن بقيادة بريطانية لما كانت تمتلك من نفوذ وهيمنة على دول المنطقة بموجب ترتيبات لما بعد الاستقلال الممتد من الباكستان إلى إيران والعراق « حلف بغداد » تحفظ استمرار الوجود الاستعماري بشكل مقّنع أبرز وجوهه وتركيا ويضغط للتوسع نحو سورية ولبنان حيث لا تتوفر الأرضية المناسبة لهذا التوسع فيهما بسبب وقوعهما فيما الاستعمار الفرنسي، وتحتفظان بعلاقات أقرب إلى الثقافة السياسية الفرنسية وريثة الثورة « حصة » سبق في الفرنسية ومبادئها في الحرية والمساواة وغيرها من المفاهيم المختلفة إلى حد ما عن مفاهيم بريطانيا.
في مواجهة هذا التوجه الضاغط على الحراك السياسي في سورية وبقية الأقطار العربية في المشرق العربي الذي يواجه الامتداد الشيوعي في المنطقة بصورة مباشرة في تلك المرحلة، ويستهدف التوجه القومي الذي يعمل بقوة لتعزيز استقلال دول المنطقة بفصلها عن النفوذ الغربي بشكلٍ غير مباشر، كانت تهب على سورية والوطن العربي بقوة رياح التوجه القومي من ثورة 23 تموز في مصر ليس بتكامل النظرية القومية بقدر التأثير المميز لقائد الثورة جمال عبد الناصر في تحريك الشعور القومي بمفهوم شخصي عرف ب « الناصرية » المحددة بشخص القائد مما أفقد هذا الحراك فرصة ديمومته لارتباطه بالشخص، وليس بالنظرية المتكاملة التي توجب مشاركة كل التوجهات القومية في تبني النظرية، وترسيخها كثقافة، كما هي حال نظرية البعث التي تبقى حية في ذاكرة الجمهور لا تسقط بغياب القيادات أو تذوب في خيارات السلطة، كما حدث في القومية التي بناها شخص الرئيس عبد الناصر وزالت برحيله بل تبدلت الصورة إلى الاتجاه المعاكس فور تولي السادات السلطة في مصر.
بينما تؤكد التجربة أن نظرية البعث لم تسقط في العراق بعد رحيل صدام حسين حيث تؤكد الأحداث باستمرارية وجود البعث في قلب المقاومة العراقية، وعلى مساحة المجتمع العراقي.
منشورات الطليعة العربية في تونس
مواضيع مماثلة
» السلطة الوطنية توافق على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
» بمناسبة صولة فرسان البعث في قيادة فرع كربلاء وحملة الاعتقالات التي قامت بها السلطة العميلة
» 'البعث': شعلة جهاد البعث أقوى من تآمر الخونة والمتخاذلين وأسيادهم
» البعث يحذر من مغبة إغتيال قادة البعث والجيش العراقي الباسل
» لماذا إنتخى البعث لليبيا وكيف قرأ البعث المخطط الشرير
» بمناسبة صولة فرسان البعث في قيادة فرع كربلاء وحملة الاعتقالات التي قامت بها السلطة العميلة
» 'البعث': شعلة جهاد البعث أقوى من تآمر الخونة والمتخاذلين وأسيادهم
» البعث يحذر من مغبة إغتيال قادة البعث والجيش العراقي الباسل
» لماذا إنتخى البعث لليبيا وكيف قرأ البعث المخطط الشرير
ملتقى الفكر القومي :: المنتدى الفكري والثقافي ***(حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية) :: قسم البحوث والدراسات الحزبية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى