ابو شريف يكشف خفايا خطيرة عن اغتيال ابو عمار
صفحة 1 من اصل 1
ابو شريف يكشف خفايا خطيرة عن اغتيال ابو عمار
ابو شريف يكشف خفايا خطيرة: جاءني ضابط استخبارات إسرائيلي وقال لي «آن الأوان لننتهي من هذين الثعلبين العجوزين عرفات وشارون"
يعتبر بسام أبو شريف واحداً من ألمع الشخصيات الوطنية الفلسطينية، بدأ حياته السياسية والكفاحية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع جورج حبش وغسان كنفاني، وخلف كنفاني كناطق رسمي باسم الجبهة الشعبية، وتعرّض لعدد من محاولات الاغتيال الإسرائيلية في بيروت، والتي أدّت إلى إصابته بجروح بليغة. خلال حصار بيروت، برز كمستشار سياسي للرئيس ياسر عرفات. وكان أبو شريف الشخصية الوحيدة التي حذّرت عرفات من مخطّط لقتله بالسمّ، وقد دوّن ذلك في رسالة وجّهها إلى قائده. هنا في هذا الحوار معه يفتح بسام أبو شريف من لندن قلبه لـمجلة«المشاهد السياسي» في حديث من شقّين: الأول حول ملابسات اغتيال عرفات، والثاني حول الوضع في فلسطين والشرق العربي، ويقدّم أبو شريف، ولأول مرة، معلومات دقيقة تُذكر لأول مرة، لها علاقة باغتيال عرفات، وكذلك يتحدّث بصراحة عن السياسة الفلسطينية، والسياستين الأميركية والإسرائيلية، على الساحات الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية والإيرانية والتركية. قلت لبسام أبو شريف:
نودّ أن نبدأ أسئلتنا لك انطلاقاً من موضوع طالما طرحته وتمسّكت به، وهو اغتيال ياسر عرفات؟ نحن نعرف أن عرفات أخذ خيار السلام مع إسرائيل.. ولكن هناك منعطفاً في هذه المسيرة جعل الإسرائيليين على ما يبدو يتّخذون القرار باغتيال عرفات.. ما هو هذا المنعطف وما هي الأسباب؟
سأروي لك القصّة كلّها، بغض النظر عن بعض التفاصيل. في يوم من الأيام كنت في احتفال في تل أبيب لجمعية السلام الدولية التي يديرها شمعون بيريز، وهي جمعية تموّلها أوروبا، كنت مدعوّاً وذهبت وحضرت، وأنا عضو في تلك الجمعية، وفيها كل من كان لهم علاقة بعملية السلام. وبينما كنت واقفاً هناك، جاءني شمعون بيريز وقال لي: يبدو أن صاحبك ياسر عرفات جادّ فعلاً في موضوع الدولة الفلسطينية. فأجبته: هل يمزح الرجل! هو فعلاً جادّ، وهو يعني ما يقوله، وليس هذا فقط، وإنما هو يعمل له. هذا كلام من؟ كلام بيريز المحسوب على السلام! ثم قال لي: نحن لم يخطر في بالنا قط أن تكون فكرة الدولة الفلسطينية شيئاً جدّياً.. وإنما فكّرنا أن أحداً ما يمكن أن يحكم الضفة إدارياً.. وكان يقصد الأردن. والآن، أترك هذه الجملة من المحادثة في مكان في رأسك.. لأنها تعني الكثير.
كان ياسر عرفات قد وقّع اتفاقاً للسلام مع الإسرائيليين، هو اتفاق «أوسلو»، وهناك من شتمه ومن وافقه، لكنه كان يتصرّف على أساس أنه وضع الكرة في الملعب الإسرائيلي، وأن حلم الدولة سيبدأ خطوة خطوة. الإسرائيليون بدورهم، وجدوا أن الاتفاق بدأ يعمل، ووجدوا أنهم بدأوا في الانسحاب، وأن عرفات بدأ يحقّق ما يصبو إليه شعبه تدريجياً.. وجاء دور المنطقة (ب) من الاتفاق. وبعد تطبيق هذه المرحلة، فكّر الإسرائيليون أن الانسحاب الجديد سيكون قريباً، سيضطرون، حسب الاتفاق، إلى الانسحاب من المنطقة (س)، وهذا يعني أن الفلسطينيين سيكونون قريبين من تل أبيب! وهكذا بدأوا بخطوات تعطيل الاتفاق. يبدو أنهم راهنوا على أن يأتي التعطيل من الجانب الفلسطيني، لكن الجانب الفلسطيني كان يعمل بشكل دقيق، ولم تبرز معارضة جدّيّة لعرفات. راهنوا على الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، وراهنوا على أن قيادة عرفات لن تبقى متماسكة، وأن الشعب الفلسطيني لن يبقى ملتفّاً حول زعيمه في ظلّ الوضع الاقتصادي الخانق، لكن لا شيء من هذه الأماني الإسرائيلية قد حصل، فمحبّة الشعب الفلسطيني لعرفات وثقته به ازدادا، فضلاً عن الكاريزما الوطنية والرمزية التي يتمتّع بها، وهي الكاريزما التي جعلته قادراً على حلّ أي إشكال يقع بين «فتح» و«حماس» مثلاً، أو بين أي فصيل فلسطيني وآخر، في اللحظة نفسها، هذا الوضع القائم على علاقة القائد بشعبه فوّت على الإسرائيليين الفرصة. كان عرفات صاحب عقلية منفتحة.. فلو كانت هناك تظاهرة كان يسمح بها، كان يقول: خلّي الناس تعبّر عن نفسها. هناك من كتب مقالاً يسبّني لم لا؟ فليكتب.. إنها وجهة نظر.. فهذا في نظره كان جزءاً من الديمقراطية الفلسطينية.
نعود إلى ذلك اللقاء مع شمعون بيريز، والكلام الذي قاله لي بكل ما يرميه من ظلال، وما يفسّر نفسه الآن بجلاء، لا سيما بعد اغتيال عرفات. بيريز لم يقل الكلام الذي قلته لك مرتبطاً بأي شيء، لكن علينا أن نحلّل الكلام ونربطه بسياقاته، ليكون في ذهننا وفي حسابنا عندما نحاول أن نحلّل ما جرى لاحقاً.
الانتفاضة الثانية
الإسرائيليون شرعوا في التقاعس عن التنفيذ، وصاروا يخلقون لنا مشاكل، وفهم ياسر عرفات أن الطرف الإسرائيلي يريد أن يتملّص من موضوع السلام، وموضوع الدولتين، فبدأ يخطّط للانتفاضة الثانية، وأنا في رأيي أن الانتفاضة الثانية بدأت ناجحة جداً، لولا سوء التصرّف الذي قام به بعض الأشخاص، عن حسن نيّة أو سوء نيّة.
*مَنْ تقصد بهؤلاء؟
أقصد تصرّفات مروان البرغوثي وبعض المحيطين به. يومها الناس كلّها كانت في الشوارع، العائلات، من الابن والبنت والزوجة والزوج والجدة، والجد، الشعب الفلسطيني كلّه كان في الشارع، انتفاضة شعبية، والعالم في حالة تعاطف حقيقية معنا.. عائلات تحمل أغصان الزيتون، وتلّوح بها وهي تغنّي، والجيش الإسرائيلي مكبّل تماماً، وفجأة بدأت المجموعات التي يقودها البرغوثي وأمثاله تطخطخ.. بالرصاص.. بالكلاشينكوف. ظهر البرغوثي ومعه ثلاثة أو أربعة مسلّحين من حرسه، وهم يطلقون الرصاص في الهواء تحت أنظار جيش من الكاميرات الأجنبية والعربية.. وشوفوني يا عالم..! ومع أول رصاصتين فلسطينيتين استعراضيتين تلقّف الإسرائيليون المبادرة وشرعوا في مهاجمتنا.. تخيّل نفسك أنت وزوجتك وأولادك وبناتك في الشارع، وأمّك العجوز، في عصيان وانتفاضة سلمية مؤثّرة، وفجأة يدهمك الرصاص.. ستقول خلّصنا.. وترجع بعائلتك إلى البيت خوفاً عليهم من الرصاص. كم شاب يضعون الحطّات على رؤوسهم ويحملون الأسلحة ويستعرضون، ثم يجلبون عليك الرصاص الإسرائيلي من دون أن يدين الرصاص الإسرائيلي أحد.. فهو سيبدو ردّاً على رصاص فلسطيني.. وهكذا اختطفت الانتفاضة إلى العسكرة وجرى تنفيسها... يومها قلت لأبي عمّار في حضور مروان البرغوثي، وليس من وراء ظهره، وبمنتهى الوضوح: لقد أجهض هؤلاء الشباب الانتفاضة، ولا أعرف ما غايتهم من ذلك: سوء نيّة؟ حسن نيّة؟ هبل؟ لا أعرف!
تفريغ الشارع
لقد أفرغ معسكرو الانتفاضة الشارع من الناس المدنيين، ليبقوا هم وحدهم في الشارع، حاطّين هالحطّة وحاملين الأسلحة وواقفين في الشارع. لقد أجهضوها فقط ليظهروا على شاشة التلفزيون! شوف هذا التخلف وهذه الأنانية! هذا إذا كنت سآخذ الأمر بحسن نيّة!
على كل حال، أجهضت الانتفاضة، وصار المجال مفتوحاً لإسرائيل للتقدّم بقوّاتها إلى المناطق التي انسحبت منها، وفتحت باب التهجّم الدامي على الفلسطينيين من دون أن تدان دولياً، ما دامت تتذرّع بالرصاص الفلسطيني. وهكذا ألغت إسرائيل تطبيق بنود المرحلة الأولى كافة، وعدنا إلى ما دون الصفر.
وبدأت مرحلة جديدة بالغة الصعوبة ومفتوحة على المجهول. ورغم ذلك، استمر ياسر عرفات في جهوده وصموده ومفاوضاته بصبر، وكما تذكرون جاء الجنرال زيني وبدأت خطّة الطريق، وجاء الرئيس بيل كلنتون، وصولاً إلى مرحلة طابا. وفي طابا أتيحت الفرصة لياسر عرفات أن يرمي الكرة مرة أخرى في الملعب الإسرائيلي، فرماها، ووصل الموضوع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي باراك إلى الاتفاق، وكانت الأمور جاهزة للتوقيع، لكن في الطرف الإسرائيلي هناك من قال لباراك إن الوقت غير مناسب للتوقيع، فهناك انتخابات، وقيل له إن التوقيع سيجعل حزب العمل يخسر المعركة الانتخابية أمام الليكود.. والنتيجة أن بارك سقط، فلا هو أنجز اتفاقاً معنا ولا هو نجح في الانتخابات. وجاء ناتنياهو.. ولم يطل به المقام، فخرج من السلطة. جاء شارون كبير السفّاحين وصاحب مشروع الحل عن طريق الابادة.
عودة السفّاح شارون
نعم، جاء شارون، ولكن قبل ذلك كان عرفات لا يزال يقاوم عن طريق التمسّك بالاتفاقات ومشروع السلام، فقد أصرّ على أن يكون شريك سلام. عقدت كل اتفاقاته برعاية أميركية وأوروبية، وصبره كان قائماً على تكريس الشرعية الدولية التي انتزعها لقضية شعبه.. لكنها كانت بداية المرحلة المريرة. وقتها كما تذكر قام شارون بخطوته الاستفزازية التصعيدية، فدخل الأقصى بإذن من نتنياهو وتنسيق معه، وانفجر الوضع دفاعاً عن الأقصى. صحيح أن خطوة شارون لم تكن عسكرية، لكنها كانت رسالة فظّة قامت بعدها القيامة وتفجّرت الأوضاع دفاعاً عن الأقصى. وكان عرفات يومها وحيداً تماماً. لقد تُرك الرجل لقدره العصيب، تخلّى عنه الجميع.. لكنه لم يتخلَ عن دوره التاريخي، ولا عن قضيته التي آمن بها. استعدّ تماماً ليكون شهيداً.
نهاية «أوسلو» وعودة الاحتلال
بعد ذلك نعرف أن شارون نجح في الانتخابات وبدأ الفلسطينيون مرحلة جديدة أعاد معها شارون احتلال كل الأراضي التي تحرّرت. وصرنا في زمن جديد مات معه «أوسلو» تماماً؟
صحيح، ورغم ذلك استمرت المفاوضات. وجاء وزير الخارجية الأميركي كولن باول، ولن أنسى في حياتي ذلك المشهد العجيب، كنا بعيدين أربعين متراً عن مكتب أبي عمار المحاصر في المقاطعة. في مدخل المقرّ، وبينما كان خارجاً من عنده كان الجنود الإسرائيليون يدفعون به دفعاً، بمنتهى الصلف والعدوانية. بمعنى.. ماذا تفعل هنا يا باول..؟ هل جئت تنقذ عدوّنا عرفات؟ وجماعة الـ«سي آي إيه» فتحوا أبواب السيارة ومضوا بباول إلى الداخل، من دون أن يتفوّهوا بكلمة رد واحدة على فظاظة الجنود الإسرائيليين. والشيء نفسه حصل لجاك شيراك عندما جاء إلى المقاطعة وزار عرفات.
محاصرة عرفات
لكن هذا الرجل عرفات، ظلّ مصرّاً على مواصلة الطريق، وفي رأسه شيء واحد، دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وهكذا عرف الإسرائيليون أن هذا الرجل هو حجر عثرة، ويجب إزاحته من الطريق. وبدأت المعركة ضده بصورة مكثّفة وبدت حاسمة.. فقد أحكم عليه الطوق واحتلت المقاطعة، وعزل عرفات، وأنا احتلّ مكتبي، ووضعت المدفعية فوق بيتي، وراحت تقصف على عرفات تحت بصري، وتحت بيتي وبيوت القيادات الفلسطينية. كانت الدبّابات تطوّق المداخل والمخارج.. حصار وقصف. عرفات لم يفتح فمه بكلمة، والحكام العرب ارتعبوا، فلو صار شيء على ياسر عرفات ستكون فضيحة.. ما الذي سوف ينقذهم من شعوبهم. وهكذا بدأت الاتصالات مع الأميركان، وحصل بوش على وعد من الإسرائيليين بأن لا يمسّ عرفات جسدياً.
اغتيال عرفات
نأتي إلى شارون، الذي عقد اجتماعاً لمطبخه السياسي والعسكري، وأبلغ إليهم فيه أنه أعطى وعداً لبوش بأن لا يمسّ ياسر عرفات جسدياً. فتوقّف القصف على المقاطعة. أما نتيجة الحملة على المقاطعة فكانت أن لم يبق من ١٨ بناء هي مركز القيادة والسلطة سوى نصف بناية حيث يقيم عرفات.
والآن، لنأتي إلى موضوع «أن لا يمسّ عرفات جسدياً». فقد جاءني شخص كان يمشي وراء شارون وموفاز في الوقت نفسه، وهو شخص إسرائيلي، سمع الأول يقول للثاني: لقد أضعنا فرصة للتخلّص من هذا الثعلب العجوز، المشكلة أنني أعطيت كلمتي لبوش. فبادره موفاز قائلاً: لكن القصّة لم تفت، لا تزال هناك فرصة. هنا قال شارون بلغة ذات مغزى: لكن إسرائيل لا علاقة لها بالأمر؟! فأجاب موفاز: لا، إسرائيل لن تكون لها علاقة! فأجابه شارون: أوكي، إمضِ في الأمر. معنى الكلام، أن الأجهزة التي عند موفاز بينها الشين بيت والموساد، يريدون ترتيب خطّة لقتل عرفات من دون مدفعية أو رصاص أو طيران. وكلامي أنا.. إن التاريخ الإسرائيلي الأسود فيه حادثة شهيرة هي حادثة تسميم وديع حداد. وقد تمّت عن طريق أحد المقرّبين منه. إذن عن طريق السمّ. خصوصاً وأن التلفونات رجعت تشتغل والكهرباء عادت فأضاءت.
سيناريو الاغتيال
ولكن كيف اغتيل، إذا كان الإسرائيليون لم يصلوا إليه بأنفسهم؟ هل تقصد عن طريق أحد المقرّبين منه؟
ليس شرطاً، ودعني أستعرض معك أحد السيناريوات، وأنا أرجّح هذا السيناريو. سكني يبعد عن سكن عرفات ٤٠ متراً. بعد التدخّلات الدولية رفع منع التجوّل عن رام الله، باستثناء المقاطعة. وبقي الحصار على عرفات وحده قائماً لـ٤٥ يوماً بعد رفعه عن رام الله. وخلال هذه الفترة، وفي كل يوم، كانت تأتي عربة تحمل الطعام والدواء، ويقودها شاب فلسطيني. ومن مدخل بيتي إلى مدخل إقامة عرفات هناك ثلاثة حواجز من الأسلاك الشائكة لا بد من أن تعبرها هذه العربة، فكانت تجتاز الحاجزين الأول والثاني، وفي الحاجز الثالث يطالب الإسرائيليون الشاب الفلسطيني بمغادرة العربة، ويستقلّها أحد الجنود الإسرائيليين، ويقودها بنفسه حتى الساحة المجاورة لباب إقامة عرفات، ويتركها هناك.. فتأتي مجموعة من الأشخاص الإسرائيليين الخبراء بالمتفجّرات ويفتشون السيارة بحثاً عن المتفجّرات، وكانوا يفتشونها قطعة قطعة وغرضاً غرضاً.
تقديري الشخصي، يبدأ من السؤال التالي: هل يصعب على هؤلاء الإسرائيليين أن يفتحوا واحدة من علب الدواء التي يستعملها عرفات ويسمّموها بسمّ مموّه وبطريقة متقنة خلال مرحلة التفتيش..؟ شيء آخر، هناك ماء. ألا يمكن للإسرائيليين أن يسمّموا قناني الماء بإبرة حساسة من دون أن يشعر بذلك أحد؟ وهناك في إسرائيل مصانع أدوية متطوّرة، بل يمكن ذلك عن طريق معجون الأسنان. في ظنّي أن هذه هي الطريقة. وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون عرفات سمّم عن طريق أحد رجاله أو المقرّبين منه. هذه هي الطريقة التي أرجّح أن عرفات اغتيل بوساطتها. إنه السيناريو المرجّح. أما أنه اغتيل فلا شك عندي إطلاقاً في ذلك.
رسالة تحذير
*أنت معروف عنك بأنك الوحيد الذي نبّه عرفات إلى وجود مخطّط إسرائيلي لاغتياله، وقد حدّدت بأن الاغتيال سيجري عن طريق السمّ، ولكن كيف وصلتك المعلومات؟
صحيح، وتحذيري موثّق في رسالة أرسلتها لعرفات ووزّعها بنفسه على القيادة. خلال وجوده محاصراً في المقاطعة ذكرته بالرسالة التي كتبتها إليه، وكان مفادها أن هناك مخططاً لاغتيالك بوساطة السم.. وهي منشورة في كتابي، وهو وضع إشارات بالأسود تحت الرسالة قبل أن يوزّعها على القيادات الفلسطينية. يعني عرفات كان على علم بوجود مخطّط لتسميمه. وفي العزاء واجهني الإخوة والأصدقاء من القيادات وقالوا لي: والله يا بسام إنك كنت قد رأيت النتيجة، وكنت عارفاً بوجود مخطّط ونبّهت إليه. فقلت ليتني لم أكن أعرف، وليته لم يكن هناك مثل هذا المخطط.
الآن، سأبوح إليك بشيء لم أبح به من قبل. جاءني ضابط استخبارات إسرائيلي سابق كان إكس كارنيل، وكان مع السلام. وقال لي بالحرف الواحد: «آن الأوان لننتهي من هذين الثعلبين العجوزين عرفات وشارون». وأنا أعتقد أن شارون سمّم بدوره.
اغتيال مزدوج
*هل تريد أن تقول إن قرار اغتيال كل من عرفات وشارون بالسمّ قد تم في وقت واحد؟
نعم، هذا ما قصدته.
لكن هناك فارقاً كبيراً بين عرفات المنادي بالسلام والساعي إليه، وبين شارون المعادي للسلام والساعي إلى إبادة الفلسطينيين بدلاً من الاتفاق معهم؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال، أقول إن أبا عمار كان يستطيع أن يبقى حيّاً حتى اليوم، على الآلات كما هو الحال بالنسبة إلى شارون الحيّ اسمياً، لكن الميت عملياً. لكن أقولها لك كجملة لتبقيها في رأسك، وعلينا أن نتذكّر أن شارون وقع في المرض لأول مرة في الفترة نفسها التي وقع فيها عرفات في المرض، ثم رجع إلى العمل، وبعدها وقع للمرة الثانية ودخل في الكوما ولا يزال حتى اليوم.
يمكننا أن نفهم لماذا سُمّم عرفات.. لأنه يحمل مشروعاً سلمياً يبدو أنه ظلّ مخيفاً بالنسبة إلى الإسرائيليين، وهم يشعرون بأن هذا المشروع يهدّدهم على المدى البعيد.. لكن لماذا يُغتال شارون المعادي لمشروع عرفات السلمي؟
لا.. المسألة ليست بالبساطة التي نتصوّرها.. للأسف نحن خضنا معارك كثيرة من دون أن نعرف أن الأبيض والأسود في السياسة أمر غير وارد.. لقد اكتشفنا بعد ضربات كثيرة وبعد محن لا تنقطع، أن الأعداء والأصدقاء يمكن أن يقودهم أحياناً مرجع واحد. أرجو أن نتمكّن ذات يوم من أن نتكلّم في العمق في هذه المسالة، وأن نكشف الكثير من الأسرار التي لم تكشف إلى اليوم حول هذه النقطة. خلاصتي أن هناك مايسترو يقود الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
أقتل بوش
إشارتك إلى وقائع دفع كولن باول والاغلاظ له بالقول والفعل في رام الله، لدى زيارته عرفات المحاصر، ألا تتناقض مع هذه الاشارة إلى المايسترو الأميركي الذي يتحكّم بالطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء؟
شوف، هؤلاء الإسرائيليون إذا شعروا بوجود تعاطف مع الفلسطينيين من جانب أي شخص، أميركياً كان أم أوروبياً أو غيره، فإنهم ينقلبون عليه. وسأروي لك هذه الواقعة. عندما زار بوش فلسطين، وبينما كنت خارجاً من أريحا نحو رام الله، ومعي صحافيون، وتوقّفنا عند حاجز إسرائيلي، نظر الجندي في أحد المصوّرين وقال له: هل صوّرت بوش؟ فأجابه نعم. فقال له الجندي: ما رأيك لو أعطيتك هذا الرشاش، فتذهب وتقتله؟! هذا طبعاً كلام سخيف، لكنه ليس بلا دلالة. قال الشاب الفلسطيني للجندي الإسرائيلي: نحن نحب بوش وليس لدينا مشكلة معه. فردّ عليه الجندي الإسرائيلي: نحن نكرهه. نحن نكره بوش، لأنه قال بدولة فلسطينية، أقامت هذه الدولة أم لم تقم. الجندي معبأ ضد بوش تلقائياً، وليس لأن أحداً عبّأه. وبالتالي فإن الدولة العبرية كلّها معبّأة؟
أميركا تحكم الجميع
هناك سؤال كلاسيكي عربي يشبه السؤال عن البيضة والدجاجة، أيهما أسبق.. هذا السؤال يتعلّق بإسرائيل وأميركا: أيهما تقود الأخرى في الشرق الأوسط؟
لا، بطلت قصّة الدجاجة والبيضة، لم يعد هذا السؤال عصيّاً، والجواب بات معروفاً للجميع. أميركا تحكم الجميع، والكلام العربي القديم القائل بأن إسرائيل هي التي تقود أميركا كلام سخيف، وبلا أي قيمة سياسية. اليهود لا يحكمون أميركا، ولا يحكمون حتى أنفسهم.
إذن لماذا تخلّت أميركا عن الفلسطينيين في المنعطف الصعب للسلام؟ لماذا تركت أميركا الفلسطينيين لينهشهم اليمين الإسرائيلي المتطرّف، عندما كان في وسعهم فرض السلام على الإسرائيليين؟
السبب بسيط جداً، إنه يكمن في المصالح الأميركية. فالمصالح الأميركية هي التي تحكم مواقفها. ويمكنني في هذا السياق أن أطرح سؤالاً مواجهاً: لماذا تحوّلت أميركا لدعم فكرة الدولة الفلسطينية قبل نهاية العام ٢٠٠٨ إلى درجة أن بوش بنفسه جاء إلى المنطقة؟
نودّ أن نبدأ أسئلتنا لك انطلاقاً من موضوع طالما طرحته وتمسّكت به، وهو اغتيال ياسر عرفات؟ نحن نعرف أن عرفات أخذ خيار السلام مع إسرائيل.. ولكن هناك منعطفاً في هذه المسيرة جعل الإسرائيليين على ما يبدو يتّخذون القرار باغتيال عرفات.. ما هو هذا المنعطف وما هي الأسباب؟
سأروي لك القصّة كلّها، بغض النظر عن بعض التفاصيل. في يوم من الأيام كنت في احتفال في تل أبيب لجمعية السلام الدولية التي يديرها شمعون بيريز، وهي جمعية تموّلها أوروبا، كنت مدعوّاً وذهبت وحضرت، وأنا عضو في تلك الجمعية، وفيها كل من كان لهم علاقة بعملية السلام. وبينما كنت واقفاً هناك، جاءني شمعون بيريز وقال لي: يبدو أن صاحبك ياسر عرفات جادّ فعلاً في موضوع الدولة الفلسطينية. فأجبته: هل يمزح الرجل! هو فعلاً جادّ، وهو يعني ما يقوله، وليس هذا فقط، وإنما هو يعمل له. هذا كلام من؟ كلام بيريز المحسوب على السلام! ثم قال لي: نحن لم يخطر في بالنا قط أن تكون فكرة الدولة الفلسطينية شيئاً جدّياً.. وإنما فكّرنا أن أحداً ما يمكن أن يحكم الضفة إدارياً.. وكان يقصد الأردن. والآن، أترك هذه الجملة من المحادثة في مكان في رأسك.. لأنها تعني الكثير.
كان ياسر عرفات قد وقّع اتفاقاً للسلام مع الإسرائيليين، هو اتفاق «أوسلو»، وهناك من شتمه ومن وافقه، لكنه كان يتصرّف على أساس أنه وضع الكرة في الملعب الإسرائيلي، وأن حلم الدولة سيبدأ خطوة خطوة. الإسرائيليون بدورهم، وجدوا أن الاتفاق بدأ يعمل، ووجدوا أنهم بدأوا في الانسحاب، وأن عرفات بدأ يحقّق ما يصبو إليه شعبه تدريجياً.. وجاء دور المنطقة (ب) من الاتفاق. وبعد تطبيق هذه المرحلة، فكّر الإسرائيليون أن الانسحاب الجديد سيكون قريباً، سيضطرون، حسب الاتفاق، إلى الانسحاب من المنطقة (س)، وهذا يعني أن الفلسطينيين سيكونون قريبين من تل أبيب! وهكذا بدأوا بخطوات تعطيل الاتفاق. يبدو أنهم راهنوا على أن يأتي التعطيل من الجانب الفلسطيني، لكن الجانب الفلسطيني كان يعمل بشكل دقيق، ولم تبرز معارضة جدّيّة لعرفات. راهنوا على الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، وراهنوا على أن قيادة عرفات لن تبقى متماسكة، وأن الشعب الفلسطيني لن يبقى ملتفّاً حول زعيمه في ظلّ الوضع الاقتصادي الخانق، لكن لا شيء من هذه الأماني الإسرائيلية قد حصل، فمحبّة الشعب الفلسطيني لعرفات وثقته به ازدادا، فضلاً عن الكاريزما الوطنية والرمزية التي يتمتّع بها، وهي الكاريزما التي جعلته قادراً على حلّ أي إشكال يقع بين «فتح» و«حماس» مثلاً، أو بين أي فصيل فلسطيني وآخر، في اللحظة نفسها، هذا الوضع القائم على علاقة القائد بشعبه فوّت على الإسرائيليين الفرصة. كان عرفات صاحب عقلية منفتحة.. فلو كانت هناك تظاهرة كان يسمح بها، كان يقول: خلّي الناس تعبّر عن نفسها. هناك من كتب مقالاً يسبّني لم لا؟ فليكتب.. إنها وجهة نظر.. فهذا في نظره كان جزءاً من الديمقراطية الفلسطينية.
نعود إلى ذلك اللقاء مع شمعون بيريز، والكلام الذي قاله لي بكل ما يرميه من ظلال، وما يفسّر نفسه الآن بجلاء، لا سيما بعد اغتيال عرفات. بيريز لم يقل الكلام الذي قلته لك مرتبطاً بأي شيء، لكن علينا أن نحلّل الكلام ونربطه بسياقاته، ليكون في ذهننا وفي حسابنا عندما نحاول أن نحلّل ما جرى لاحقاً.
الانتفاضة الثانية
الإسرائيليون شرعوا في التقاعس عن التنفيذ، وصاروا يخلقون لنا مشاكل، وفهم ياسر عرفات أن الطرف الإسرائيلي يريد أن يتملّص من موضوع السلام، وموضوع الدولتين، فبدأ يخطّط للانتفاضة الثانية، وأنا في رأيي أن الانتفاضة الثانية بدأت ناجحة جداً، لولا سوء التصرّف الذي قام به بعض الأشخاص، عن حسن نيّة أو سوء نيّة.
*مَنْ تقصد بهؤلاء؟
أقصد تصرّفات مروان البرغوثي وبعض المحيطين به. يومها الناس كلّها كانت في الشوارع، العائلات، من الابن والبنت والزوجة والزوج والجدة، والجد، الشعب الفلسطيني كلّه كان في الشارع، انتفاضة شعبية، والعالم في حالة تعاطف حقيقية معنا.. عائلات تحمل أغصان الزيتون، وتلّوح بها وهي تغنّي، والجيش الإسرائيلي مكبّل تماماً، وفجأة بدأت المجموعات التي يقودها البرغوثي وأمثاله تطخطخ.. بالرصاص.. بالكلاشينكوف. ظهر البرغوثي ومعه ثلاثة أو أربعة مسلّحين من حرسه، وهم يطلقون الرصاص في الهواء تحت أنظار جيش من الكاميرات الأجنبية والعربية.. وشوفوني يا عالم..! ومع أول رصاصتين فلسطينيتين استعراضيتين تلقّف الإسرائيليون المبادرة وشرعوا في مهاجمتنا.. تخيّل نفسك أنت وزوجتك وأولادك وبناتك في الشارع، وأمّك العجوز، في عصيان وانتفاضة سلمية مؤثّرة، وفجأة يدهمك الرصاص.. ستقول خلّصنا.. وترجع بعائلتك إلى البيت خوفاً عليهم من الرصاص. كم شاب يضعون الحطّات على رؤوسهم ويحملون الأسلحة ويستعرضون، ثم يجلبون عليك الرصاص الإسرائيلي من دون أن يدين الرصاص الإسرائيلي أحد.. فهو سيبدو ردّاً على رصاص فلسطيني.. وهكذا اختطفت الانتفاضة إلى العسكرة وجرى تنفيسها... يومها قلت لأبي عمّار في حضور مروان البرغوثي، وليس من وراء ظهره، وبمنتهى الوضوح: لقد أجهض هؤلاء الشباب الانتفاضة، ولا أعرف ما غايتهم من ذلك: سوء نيّة؟ حسن نيّة؟ هبل؟ لا أعرف!
تفريغ الشارع
لقد أفرغ معسكرو الانتفاضة الشارع من الناس المدنيين، ليبقوا هم وحدهم في الشارع، حاطّين هالحطّة وحاملين الأسلحة وواقفين في الشارع. لقد أجهضوها فقط ليظهروا على شاشة التلفزيون! شوف هذا التخلف وهذه الأنانية! هذا إذا كنت سآخذ الأمر بحسن نيّة!
على كل حال، أجهضت الانتفاضة، وصار المجال مفتوحاً لإسرائيل للتقدّم بقوّاتها إلى المناطق التي انسحبت منها، وفتحت باب التهجّم الدامي على الفلسطينيين من دون أن تدان دولياً، ما دامت تتذرّع بالرصاص الفلسطيني. وهكذا ألغت إسرائيل تطبيق بنود المرحلة الأولى كافة، وعدنا إلى ما دون الصفر.
وبدأت مرحلة جديدة بالغة الصعوبة ومفتوحة على المجهول. ورغم ذلك، استمر ياسر عرفات في جهوده وصموده ومفاوضاته بصبر، وكما تذكرون جاء الجنرال زيني وبدأت خطّة الطريق، وجاء الرئيس بيل كلنتون، وصولاً إلى مرحلة طابا. وفي طابا أتيحت الفرصة لياسر عرفات أن يرمي الكرة مرة أخرى في الملعب الإسرائيلي، فرماها، ووصل الموضوع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي باراك إلى الاتفاق، وكانت الأمور جاهزة للتوقيع، لكن في الطرف الإسرائيلي هناك من قال لباراك إن الوقت غير مناسب للتوقيع، فهناك انتخابات، وقيل له إن التوقيع سيجعل حزب العمل يخسر المعركة الانتخابية أمام الليكود.. والنتيجة أن بارك سقط، فلا هو أنجز اتفاقاً معنا ولا هو نجح في الانتخابات. وجاء ناتنياهو.. ولم يطل به المقام، فخرج من السلطة. جاء شارون كبير السفّاحين وصاحب مشروع الحل عن طريق الابادة.
عودة السفّاح شارون
نعم، جاء شارون، ولكن قبل ذلك كان عرفات لا يزال يقاوم عن طريق التمسّك بالاتفاقات ومشروع السلام، فقد أصرّ على أن يكون شريك سلام. عقدت كل اتفاقاته برعاية أميركية وأوروبية، وصبره كان قائماً على تكريس الشرعية الدولية التي انتزعها لقضية شعبه.. لكنها كانت بداية المرحلة المريرة. وقتها كما تذكر قام شارون بخطوته الاستفزازية التصعيدية، فدخل الأقصى بإذن من نتنياهو وتنسيق معه، وانفجر الوضع دفاعاً عن الأقصى. صحيح أن خطوة شارون لم تكن عسكرية، لكنها كانت رسالة فظّة قامت بعدها القيامة وتفجّرت الأوضاع دفاعاً عن الأقصى. وكان عرفات يومها وحيداً تماماً. لقد تُرك الرجل لقدره العصيب، تخلّى عنه الجميع.. لكنه لم يتخلَ عن دوره التاريخي، ولا عن قضيته التي آمن بها. استعدّ تماماً ليكون شهيداً.
نهاية «أوسلو» وعودة الاحتلال
بعد ذلك نعرف أن شارون نجح في الانتخابات وبدأ الفلسطينيون مرحلة جديدة أعاد معها شارون احتلال كل الأراضي التي تحرّرت. وصرنا في زمن جديد مات معه «أوسلو» تماماً؟
صحيح، ورغم ذلك استمرت المفاوضات. وجاء وزير الخارجية الأميركي كولن باول، ولن أنسى في حياتي ذلك المشهد العجيب، كنا بعيدين أربعين متراً عن مكتب أبي عمار المحاصر في المقاطعة. في مدخل المقرّ، وبينما كان خارجاً من عنده كان الجنود الإسرائيليون يدفعون به دفعاً، بمنتهى الصلف والعدوانية. بمعنى.. ماذا تفعل هنا يا باول..؟ هل جئت تنقذ عدوّنا عرفات؟ وجماعة الـ«سي آي إيه» فتحوا أبواب السيارة ومضوا بباول إلى الداخل، من دون أن يتفوّهوا بكلمة رد واحدة على فظاظة الجنود الإسرائيليين. والشيء نفسه حصل لجاك شيراك عندما جاء إلى المقاطعة وزار عرفات.
محاصرة عرفات
لكن هذا الرجل عرفات، ظلّ مصرّاً على مواصلة الطريق، وفي رأسه شيء واحد، دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. وهكذا عرف الإسرائيليون أن هذا الرجل هو حجر عثرة، ويجب إزاحته من الطريق. وبدأت المعركة ضده بصورة مكثّفة وبدت حاسمة.. فقد أحكم عليه الطوق واحتلت المقاطعة، وعزل عرفات، وأنا احتلّ مكتبي، ووضعت المدفعية فوق بيتي، وراحت تقصف على عرفات تحت بصري، وتحت بيتي وبيوت القيادات الفلسطينية. كانت الدبّابات تطوّق المداخل والمخارج.. حصار وقصف. عرفات لم يفتح فمه بكلمة، والحكام العرب ارتعبوا، فلو صار شيء على ياسر عرفات ستكون فضيحة.. ما الذي سوف ينقذهم من شعوبهم. وهكذا بدأت الاتصالات مع الأميركان، وحصل بوش على وعد من الإسرائيليين بأن لا يمسّ عرفات جسدياً.
اغتيال عرفات
نأتي إلى شارون، الذي عقد اجتماعاً لمطبخه السياسي والعسكري، وأبلغ إليهم فيه أنه أعطى وعداً لبوش بأن لا يمسّ ياسر عرفات جسدياً. فتوقّف القصف على المقاطعة. أما نتيجة الحملة على المقاطعة فكانت أن لم يبق من ١٨ بناء هي مركز القيادة والسلطة سوى نصف بناية حيث يقيم عرفات.
والآن، لنأتي إلى موضوع «أن لا يمسّ عرفات جسدياً». فقد جاءني شخص كان يمشي وراء شارون وموفاز في الوقت نفسه، وهو شخص إسرائيلي، سمع الأول يقول للثاني: لقد أضعنا فرصة للتخلّص من هذا الثعلب العجوز، المشكلة أنني أعطيت كلمتي لبوش. فبادره موفاز قائلاً: لكن القصّة لم تفت، لا تزال هناك فرصة. هنا قال شارون بلغة ذات مغزى: لكن إسرائيل لا علاقة لها بالأمر؟! فأجاب موفاز: لا، إسرائيل لن تكون لها علاقة! فأجابه شارون: أوكي، إمضِ في الأمر. معنى الكلام، أن الأجهزة التي عند موفاز بينها الشين بيت والموساد، يريدون ترتيب خطّة لقتل عرفات من دون مدفعية أو رصاص أو طيران. وكلامي أنا.. إن التاريخ الإسرائيلي الأسود فيه حادثة شهيرة هي حادثة تسميم وديع حداد. وقد تمّت عن طريق أحد المقرّبين منه. إذن عن طريق السمّ. خصوصاً وأن التلفونات رجعت تشتغل والكهرباء عادت فأضاءت.
سيناريو الاغتيال
ولكن كيف اغتيل، إذا كان الإسرائيليون لم يصلوا إليه بأنفسهم؟ هل تقصد عن طريق أحد المقرّبين منه؟
ليس شرطاً، ودعني أستعرض معك أحد السيناريوات، وأنا أرجّح هذا السيناريو. سكني يبعد عن سكن عرفات ٤٠ متراً. بعد التدخّلات الدولية رفع منع التجوّل عن رام الله، باستثناء المقاطعة. وبقي الحصار على عرفات وحده قائماً لـ٤٥ يوماً بعد رفعه عن رام الله. وخلال هذه الفترة، وفي كل يوم، كانت تأتي عربة تحمل الطعام والدواء، ويقودها شاب فلسطيني. ومن مدخل بيتي إلى مدخل إقامة عرفات هناك ثلاثة حواجز من الأسلاك الشائكة لا بد من أن تعبرها هذه العربة، فكانت تجتاز الحاجزين الأول والثاني، وفي الحاجز الثالث يطالب الإسرائيليون الشاب الفلسطيني بمغادرة العربة، ويستقلّها أحد الجنود الإسرائيليين، ويقودها بنفسه حتى الساحة المجاورة لباب إقامة عرفات، ويتركها هناك.. فتأتي مجموعة من الأشخاص الإسرائيليين الخبراء بالمتفجّرات ويفتشون السيارة بحثاً عن المتفجّرات، وكانوا يفتشونها قطعة قطعة وغرضاً غرضاً.
تقديري الشخصي، يبدأ من السؤال التالي: هل يصعب على هؤلاء الإسرائيليين أن يفتحوا واحدة من علب الدواء التي يستعملها عرفات ويسمّموها بسمّ مموّه وبطريقة متقنة خلال مرحلة التفتيش..؟ شيء آخر، هناك ماء. ألا يمكن للإسرائيليين أن يسمّموا قناني الماء بإبرة حساسة من دون أن يشعر بذلك أحد؟ وهناك في إسرائيل مصانع أدوية متطوّرة، بل يمكن ذلك عن طريق معجون الأسنان. في ظنّي أن هذه هي الطريقة. وبالتالي ليس بالضرورة أن يكون عرفات سمّم عن طريق أحد رجاله أو المقرّبين منه. هذه هي الطريقة التي أرجّح أن عرفات اغتيل بوساطتها. إنه السيناريو المرجّح. أما أنه اغتيل فلا شك عندي إطلاقاً في ذلك.
رسالة تحذير
*أنت معروف عنك بأنك الوحيد الذي نبّه عرفات إلى وجود مخطّط إسرائيلي لاغتياله، وقد حدّدت بأن الاغتيال سيجري عن طريق السمّ، ولكن كيف وصلتك المعلومات؟
صحيح، وتحذيري موثّق في رسالة أرسلتها لعرفات ووزّعها بنفسه على القيادة. خلال وجوده محاصراً في المقاطعة ذكرته بالرسالة التي كتبتها إليه، وكان مفادها أن هناك مخططاً لاغتيالك بوساطة السم.. وهي منشورة في كتابي، وهو وضع إشارات بالأسود تحت الرسالة قبل أن يوزّعها على القيادات الفلسطينية. يعني عرفات كان على علم بوجود مخطّط لتسميمه. وفي العزاء واجهني الإخوة والأصدقاء من القيادات وقالوا لي: والله يا بسام إنك كنت قد رأيت النتيجة، وكنت عارفاً بوجود مخطّط ونبّهت إليه. فقلت ليتني لم أكن أعرف، وليته لم يكن هناك مثل هذا المخطط.
الآن، سأبوح إليك بشيء لم أبح به من قبل. جاءني ضابط استخبارات إسرائيلي سابق كان إكس كارنيل، وكان مع السلام. وقال لي بالحرف الواحد: «آن الأوان لننتهي من هذين الثعلبين العجوزين عرفات وشارون». وأنا أعتقد أن شارون سمّم بدوره.
اغتيال مزدوج
*هل تريد أن تقول إن قرار اغتيال كل من عرفات وشارون بالسمّ قد تم في وقت واحد؟
نعم، هذا ما قصدته.
لكن هناك فارقاً كبيراً بين عرفات المنادي بالسلام والساعي إليه، وبين شارون المعادي للسلام والساعي إلى إبادة الفلسطينيين بدلاً من الاتفاق معهم؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال، أقول إن أبا عمار كان يستطيع أن يبقى حيّاً حتى اليوم، على الآلات كما هو الحال بالنسبة إلى شارون الحيّ اسمياً، لكن الميت عملياً. لكن أقولها لك كجملة لتبقيها في رأسك، وعلينا أن نتذكّر أن شارون وقع في المرض لأول مرة في الفترة نفسها التي وقع فيها عرفات في المرض، ثم رجع إلى العمل، وبعدها وقع للمرة الثانية ودخل في الكوما ولا يزال حتى اليوم.
يمكننا أن نفهم لماذا سُمّم عرفات.. لأنه يحمل مشروعاً سلمياً يبدو أنه ظلّ مخيفاً بالنسبة إلى الإسرائيليين، وهم يشعرون بأن هذا المشروع يهدّدهم على المدى البعيد.. لكن لماذا يُغتال شارون المعادي لمشروع عرفات السلمي؟
لا.. المسألة ليست بالبساطة التي نتصوّرها.. للأسف نحن خضنا معارك كثيرة من دون أن نعرف أن الأبيض والأسود في السياسة أمر غير وارد.. لقد اكتشفنا بعد ضربات كثيرة وبعد محن لا تنقطع، أن الأعداء والأصدقاء يمكن أن يقودهم أحياناً مرجع واحد. أرجو أن نتمكّن ذات يوم من أن نتكلّم في العمق في هذه المسالة، وأن نكشف الكثير من الأسرار التي لم تكشف إلى اليوم حول هذه النقطة. خلاصتي أن هناك مايسترو يقود الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني.
أقتل بوش
إشارتك إلى وقائع دفع كولن باول والاغلاظ له بالقول والفعل في رام الله، لدى زيارته عرفات المحاصر، ألا تتناقض مع هذه الاشارة إلى المايسترو الأميركي الذي يتحكّم بالطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء؟
شوف، هؤلاء الإسرائيليون إذا شعروا بوجود تعاطف مع الفلسطينيين من جانب أي شخص، أميركياً كان أم أوروبياً أو غيره، فإنهم ينقلبون عليه. وسأروي لك هذه الواقعة. عندما زار بوش فلسطين، وبينما كنت خارجاً من أريحا نحو رام الله، ومعي صحافيون، وتوقّفنا عند حاجز إسرائيلي، نظر الجندي في أحد المصوّرين وقال له: هل صوّرت بوش؟ فأجابه نعم. فقال له الجندي: ما رأيك لو أعطيتك هذا الرشاش، فتذهب وتقتله؟! هذا طبعاً كلام سخيف، لكنه ليس بلا دلالة. قال الشاب الفلسطيني للجندي الإسرائيلي: نحن نحب بوش وليس لدينا مشكلة معه. فردّ عليه الجندي الإسرائيلي: نحن نكرهه. نحن نكره بوش، لأنه قال بدولة فلسطينية، أقامت هذه الدولة أم لم تقم. الجندي معبأ ضد بوش تلقائياً، وليس لأن أحداً عبّأه. وبالتالي فإن الدولة العبرية كلّها معبّأة؟
أميركا تحكم الجميع
هناك سؤال كلاسيكي عربي يشبه السؤال عن البيضة والدجاجة، أيهما أسبق.. هذا السؤال يتعلّق بإسرائيل وأميركا: أيهما تقود الأخرى في الشرق الأوسط؟
لا، بطلت قصّة الدجاجة والبيضة، لم يعد هذا السؤال عصيّاً، والجواب بات معروفاً للجميع. أميركا تحكم الجميع، والكلام العربي القديم القائل بأن إسرائيل هي التي تقود أميركا كلام سخيف، وبلا أي قيمة سياسية. اليهود لا يحكمون أميركا، ولا يحكمون حتى أنفسهم.
إذن لماذا تخلّت أميركا عن الفلسطينيين في المنعطف الصعب للسلام؟ لماذا تركت أميركا الفلسطينيين لينهشهم اليمين الإسرائيلي المتطرّف، عندما كان في وسعهم فرض السلام على الإسرائيليين؟
السبب بسيط جداً، إنه يكمن في المصالح الأميركية. فالمصالح الأميركية هي التي تحكم مواقفها. ويمكنني في هذا السياق أن أطرح سؤالاً مواجهاً: لماذا تحوّلت أميركا لدعم فكرة الدولة الفلسطينية قبل نهاية العام ٢٠٠٨ إلى درجة أن بوش بنفسه جاء إلى المنطقة؟
مواضيع مماثلة
» مؤرخ كردي يكشف حقائق خطيرة عن تاريخ الاكراد
» صورة الرفيق صدام والزعيم ابو عمار
» اصابة جندي اسرائيلي بجراح خطيرة جنوب اسرائيل
» الشهيد الخالد ياسر عرفات "أبو عمار" سيرة ذاتية .. مسيرة شعب
» خفايا وأسرار -مرافق صدام يروي قصة الحرب: صدام اجهش بالبكاء بعد خطاب الضربة الاولى وبعض القادة عصوا اوامره
» صورة الرفيق صدام والزعيم ابو عمار
» اصابة جندي اسرائيلي بجراح خطيرة جنوب اسرائيل
» الشهيد الخالد ياسر عرفات "أبو عمار" سيرة ذاتية .. مسيرة شعب
» خفايا وأسرار -مرافق صدام يروي قصة الحرب: صدام اجهش بالبكاء بعد خطاب الضربة الاولى وبعض القادة عصوا اوامره
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى