للبعث رصيد في ضمير الأمة
صفحة 1 من اصل 1
للبعث رصيد في ضمير الأمة
للبعث رصيد في ضمير الأمة
ميشيل عفلق
ايها الرفاق (1)
كانت بالفعل امنية غالية ان التقي بمناضلي البعث في هذه المدينة المناضلة.. إنني أعطي
لتأثير المكان أهمية خاصة فهناك في الوطن الواسع بعض الأمكنة، بعض
المناطق، بعض المدن تتجسد فيها معان قومية ونضالية أكثر مما تتجسد وتتمثل
في غيرها من الأمكنة، ولاشك ان هذه المدينة هي من الأماكن المرموقة في
تاريخ النضال العربي الحديث، وكان طبيعيا جدا ان ينشأ حزب البعث فيها،
وان ينمو ويأخذ طابعا شعبيا أصيلا عميقا. فحزب البعث ايها الرفاق، ولد من
البيئة الوطنية، قبل اي شيء آخر، الوطنية بمعناها البسيط الصافي كما
يفهمها شعبنا وكما يفهمها كل شعب، كانت هي المهد الذي نشأ وترعرع فيه
حزبكم.
قبل الافكار والنظريات، قبل التطرق الى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية كان هناك جو
هو الغالب، هو الطاغي، هو المؤثر بعمق، هو المحرك والدافع: ذلك هو جو
الوطنية المكافحة ضد الاستعمار، ضد الأجنبي الدخيل، ضد الاستعباد، ضد
الاحتلال. وإذا سألتم عن سر أصالة هذا الحزب، وعن سر صموده طوال هذه
السنين، وعن سر قربه من روح الشعب، ومن أوساط الشعب.. فالجواب في هذا
الذي ذكرت بأنه نشأ نشأة طبيعية سليمة سوية، نشأ في بيئة ومن وسط وعلى
أيدي شباب رضعوا الوطنية منذ الصغر، وعاشوا بين أهل وجيران يتحسسون بهذا
الشعور القوي، ويلبون نداءه، فكانت نشأة الحزب اذن منذ بدايتها سليمة،
بمعنى انها عبرت عن أسمى وارفع وأقدس شعور في الانسان، شعور الدفاع عن
الوطن، وعن الكرامة وعن الحرية، وبمعنى ان هذه النشأة كانت متصلة بروح
الشعب تستلهم هذه الروح وترجع اليها كلما التبست الأمور وتعتبرها اصح
مقياس، واصدق مقياس، قبل الأفكار وقبل النظريات. ولان أفكار الحزب اهتدت
بهذه الروح الوطنية الشعبية، ظلت قريبة من الحياة بعيدة عن التطرف، وعن
الخطأ، بعيدة عن الشذوذ، بعيدة عن الكذب والنفاق، لان الانطلاق من الكتب
وما يسجل في الكتب قد يسمح احيانا بافتراق بين القول والعمل.. بين الفكر
والسلوك، ولكن عندما يكون الانطلاق من الجو والتربة الوطنية الشعبية يكون
للحركة، للحزب، رصيد من الصدق لا ينضب. وهذا ما يفسر كيف استطاع الحزب ان
يتغلب على عديد من محاولات التشويه والتزييف خلال تاريخ مسيرته الطويلة،
لانه تسلح بتلك الأصالة الأولى.
وكما بدأ الحزب يلبي
الاندفاعات الوطنية العفوية ثم اخذ ينمو وينضج ويتعمق في تلك الوطنية حتى
يعطيها المضمون الحي القوي المتين الذي يكفل لها الصمود والدوام والنصر،
فتوسع وتعقق في معاني الوطنية حتى كشف عن الجوانب الاجتماعية في حياة
الوطن والمواطن وكان بذلك سباقا اذ جمع الثورة القومية التي تعني التحرر
من الاستعمار والتحرر من التجزئة، الى الثورة الاجتماعية التي تعني ثورة
الإنتاج وثورة في امتلاك وسائل الانتاج والتي تعني الاشتراكية وتعني
توفير الوسائل التي تتيح للمواطن العربي أن يناضل ضد الاستعمار ويكون
نضاله ناجعا ناجحا، وان يناضل ضد التجزئة وان يصل الى تحقيق الوحدة قلت:
كما ان الحزب نما ومر بهذه المراحل بشكل طبيعي لا اصطناع فيه، كذلك أرى
ان هذه المدينة قد مرت بشكل طبيعي بهذه المراحل ايضا، فانتقلت على يد حزب
البعث ومناضليه من مرحلة الوطنية العامة العفوية الى مرحلة الوطنية
المعمقة التي تدرس الجوانب الاجتماعية، في حياة المواطنين، والتي تبني
بهذا الشكل نضالها على أمتن الأسس واصلب الأسس، اي على الطبقات الشعبية
ذات المصلحة في التحرر من الاستعمار وذات المصلحة في التحرر من التجزئة،
وذات المصلحة في التحرر من الاستبداد والإقطاع والرأسمالية المستغلة.
فكان عمل البعث في
هذه المدينة تكملة طبيعية وضرورية للمرحلة الوطنية وهذا ما اعطى لنضال
هذه المدينة ذلك المركز المرموق، لأنها عرفت كيف تتابع نضالها وتتابع
تطورها، ولا تتوقف وتتجمد عند مرحلة الوطنية التي لا محتوى لها، بعد تغير
الظروف وجلاء الأجنبي المحتل، فانها اذا لم تعط المحتوى الاجتماعي الذي
اعطاه حزبنا فإنها تتحول الى شعار خادع يخفي المصالح الآثمة التي تستغل
الشعب وتستعبده.
ايها الرفاق
بودي ان أحدثكم طويلا، واذا لم أتمكن من الإطالة في هذه المرحلة فآمل ان استطيع اكمال حديثي اليكم في مرة ثانية.
اني افضل ان يكون
حديثي من خلال ما يجول في أذهانكم من اسئلة ومن خواطر في هذه الظروف
القومية العصيبة التي تهز الوجدان العربي، إذ أني لا أحب أن يكون الكلام
من طرف واحد، وأن يلقى كتلقين وتدريس.. أرى ان الفائدة تتحقق، وان طبيعة
الحزب الثوري الشعبي ان لا يكون فيه فرض للافكار وللتقييمات، وان يصل الى
ذلك بالحوار والتفاعل بين المناضلين، بين القيادة والقواعد.. وكثيرا ما
تلهمني أسئلة الرفاق في قواعد الحزب أفكارا وتنبهني الى ملاحظات أكون
غافلا عنها او ناسيا لها، ولعلكم تعرفون بان الأحاديث التي قيلت في هذا
الحزب منذ بدايته وعلى مدى سنين طويلة كانت نتيجة هذا التفاعل وهذا
الحوار، لذلك اترك لكم المجال كي تطرحوا أسئلتكم وملاحظاتكم.
الاجابة على الاسئلة
سوف تكون أجوبتي غير خاضعة لتسلسل الاسئلة لان هناك بعض الاسئلة متشابهة، ولكن أرجو ان أتمكن من الاجابة على الاسئلة كلها.
في اكثر من حديث،
صارحت أعضاء هذا الحزب، صارحت قواعد الحزب، ليس في قطر واحد بل في اكثر
من قطر، بان نشوء هذا الحزب وتطوره لم يكن مثل بقية الاحزاب والحركات
الثورية، ولم يجيء دوما مطابقا للرغبات والاماني التي كنا نتصورها في
البداية، والسبب في ذلك لابد ان يرجع الى شيئين:
نقص في الحزب نفسه اولا، ثم طبيعة المرحلة التي تمر بها الأمة أو التي وصلت اليها امتنا في مسيرتها التحررية ثانيا.
اذن التفسير لا بد
ان يأخذ بالاعتبار هذين العاملين، شيء متعلق بالحزب، بتكوينه، بأشخاصه،
بظروفه، بتنظيمه، بوسائله.. وشيء آخر يتعلق بالمجتمع الذي يعمل الحزب فيه.
عندما نريد ان نيأس
ونتشاءم نجد مبررات كافية وأكثر من اللزوم للتشاؤم واليأس، وعندما يحلو
لنا ان نغتر بأنفسنا ايضا قد لا تعوزنا الأدلة لكي نرى اننا سبقنا غيرنا
وحققنا أشياء لم يستطعها غيرنا.
ولكن الحقيقة الموضوعية هي بين الغرور والتشاؤم. بعد ثلاثين سنة من العمل في هذا الحزب
وما تخلل هذه الاعوام الثلاثين من نضال ونشاط وانتاج، واحيانا من جمود
وفتور في العمل وضياع وتشويه، بعد هذه المدة الطويلة استطيع ان أقول انه
كان يمكن لحزب البعث ان يكون على صورة أحسن مما هو عليها، أن يعطي نتائج
خيرا من التي اعطاها، أن يكون تنظيمه أقوى وانضج وأكثر استمرارية، أن
تكون أفكاره أوضح، أكثر علمية في العرض والتبويب والشرح.. ان تكون خطواته
السياسية فيها اخطاء اقل مما وقع، ان تكون مدروسة أكثر، ان تكون اقل
عفوية وارتجالا، ان تكون نتيجة خطة واستراتيجية، كل هذا وأكثر منه يجوز
قوله، ولكن الى حد. وهذا ما الفت اليه الانظار: بان هذا المستوى الأفضل
والأرقى الذي كنا نحلم به ولم نستطع بلوغه وكان يمكن ان نحقق ما هو أفضل
نسبيا فقط، بدرجة نسبية من المستوى المتحقق. ان العامل الثاني الذي أشرت
اليه وهو المتعلق بالمجتمع وبطبيعة المرحلة التي وصلت اليها الأمة، في
تطورها، يفرض حدودا للتحقيق، أي ان الأماني لا تكفي والإرادة وان تكن
خلاقة فانها ايضا لا تكفي، لا تستطيع ان تتجاوز امكانيات مرحلة معينة في
حياة الأمة.
صحيح انه كان بالامكان لولا نواقص معينة وعثرات وأمراض والخ.. لجاء الحزب على مستوى
أفضل. ولكن الا نتساءل لماذا لم يظهر في هذا الوطن العربي الكبير من
الخليج الى المحيط، لماذا لم يظهر حزب كحزب البعث ويتلافى الأخطاء كلها
او بعضها او أكثرها تلك التي صدرت عن حزبنا، الخ؟؟..
فاذن هذا يرجعنا الى
الواقع، ويرينا الحدود التي يفرضها الواقع، ويبقى أمامنا مجال واسع رحب
للتصحيح وللتحسين وللسير نحو الافضل، هذا في داخل الحزب، في مجال الفكر،
في مجال الإنتاج الفكري والثقافي، في مجال التنظيم والعمل مع الجماهير
وتوعيتها وتثقيفها والتعاون معها في القضايا الاجتماعية..
لم أقصد من الاشارة
الى طبيعة المرحلة والحدود التي تفرضها انه لا يوجد مجال للسير نحو
الأفضل إنما ايضا لو كانت طبيعة المرحلة التي تجتازها الأمة قابلة للاكثر
-نوعيا وليس كميا- كان يمكن أن يأتي الحزب أكمل من الناحية الكمية.
من الناحية النوعية
هذا متعلق بطبيعة المرحلة ولولا ذلك لولد ذلك الحزب الكامل، لان لا احد
يمنعه من الظهور، ولان لا احد يمكن ان يمنع ولادة حركة عميقة اصيلة.
ايها الرفاق
رفضنا اليأس والتشاؤم كما رفضنا الغرور، ولكنا نطلب التفاؤل وكنا دوما متسلحين به منذ بداية عملنا في هذا الحزب.
التفاؤل فضيلة نضالية ولا تتعارض مع النظرة الموضوعية ولكن هي تعبير من جهة عن نفاذ
البصيرة الثورية التي تري ما هو كامن في الأمة وفي الشعب، ما سوف يتحقق
بعد حين وان لم يكن الآن متحققا، وهو تعبير من جهة أخرى عن ارادة النضال
والاستمرار وعن روح الكفاح وعن تحقيق شخصية الانسان العربي من خلال
الكفاح والنضال، فلأنه مصمم على هذا، ولان هذا سر وجوده ومعنى حياته فلا
بد له أن يتفاءل.
افكار الحزب كما يعرفها الكثيرون، وكما اشار بعض الرفاق في اسئلتهم الى انها جاءت في كثير
من الاحيان احاديث مثل هذا اللقاء وهذا الحديث، ومقالات في مناسبات، وهذا
له تفسيره، تفسيره الذاتي والموضوعي.
الاشخاص لا يمكن ان
نفرض عليهم ما ليس في طبيعتهم. هناك من يؤلف الكتب بالشكل المدرسي
المعروف، بشكل البحث العلمي، وهناك من يتفاعل مع التجربة النضالية ويأخذ
الأفكار حية من هذه التجربة، على غير أسلوب البحث المعروف، التفسير
الذاتي هو طبيعة الشخص الذي يكتب ويتحدث والتفسير الموضوعي يرجع الى ظروف
الحزب، ظروف الحركة.
لاشك انكم تعرفون عن
الحركة الشيوعية اشياء كثيرة لانها اصبحت شائعة ومتدارسة ومعروفة على
أوسع نطاق.. وجدت النظرية، وضعت الكتب والأبحاث العميقة التي استغرق
وضعها سنين وسنين. ماركس ابو الشيوعية وواضع نظريتها، وضع مؤلفاته خلال
سنين طويلة ثم جرت المحاولات لتأسيس الحركة، وتعثرت المحاولات وفشل بعضها
الى أن استقرت وسارت في طريق مستقر ومستمر.
حزب البعث لم ينشأ بهذا الشكل، وكثيرا ما قلت ذلك ووضحته للقواعد في اكثر من مناسبة، والآن
في كلمتي الاولى عندما ما حدثتكم عن نشأة الحزب وبينت لكم أن الرصيد،
رصيد الأصالة والسلامة في تركيب هذا الحزب آت من نشأته الوطنية، وانه قبل
ان يعمل للاشتراكية ولشتى النظريات الاجتماعية كان يلبي نداء الواجب
الوطني والشعور الوطني.
والسنوات الاولى من تاريخ الحزب معروفة، معارك الحزب، حتى قبل نشوء الحزب هناك تاريخ لمؤسسيه
ولبعض رفاقهم قبل تأسيس الحزب، هناك تاريخ نضال وطني ضد الانتداب، ضد
الاحتلال، ضد العملاء، وهناك وقائع قد لا تكون معروفة على نطاق واسع
ولكنها ليست سرا من الأسرار.
فالحزب بدأ بتلبية حاجات ونداءات ملحة، لم يبدأ بوضع نظريات، ولو ان الأفكار كانت منذ
البداية في حالة تصور عام، شهد على ذلك، كتابات سابقة لتأسيس الحزب، ولكن
الافكار ولدت مع الممارسة عدا التصور العام الذي كان سابقا، فافكار الحزب
هي وليدة النضال، وليدة الممارسة.
ظروف أمتنا، ظروف مجتمعنا لم تمهلنا، لم تسمح لنا ان نعمل كما عمل فلاسفة الشيوعية، دخلنا
النضال بنداء بسيط ولكنه جوهري، زاد من الفكر والثقافة القومية
والانسانية، وبدأت هذه الافكار البسيطة المكثفة، بدأت تتفصل وتتفرع وتتنوع خلال الممارسة.
يحدث ان اشياء كتبت قبل عشرين سنة او قيلت قبل خمس عشرة سنة، وبقيت مسجلة على الورق ظن انها
فهمت او استوعبت، وربما تكون فهمت من الشباب، لكنها لم تدخل في حياة
المجتمع، لم تؤثر لم تغير، لم تصل الى الذين بيدهم وسائل التأثير
والتغيير، بقيت افكارا عائمة، والآن في هذه السنة او قبل سنة او سنتين،
نجد لبعض هذه الافكار معنى حيا متجاوبا مع حاجات راهنه موجودة الآن..
تنكشف لنا آفاق نتيجة تطور الأحداث، نتيجة اغتناء التجربة القومية، نتيجة
ما مر على أمتنا من فترات تقدم وفترات انتكاس وتقهقر.
نجد ان هذه الافكار تأخذ، كما لو كان لأول مرة، معناها، كأن لم يكن لها معنى في الماضي، لأنها بقيت دون تأثير. ماذا نستنتج من ذلك؟
نستنتج شيئين: شيئا متعلقا بالحزب، وشيئا متعلقا بطبيعة المرحلة اي بالمجتمع العربي.
الحزب لم يكن في كل الأوقات وربما لم يكن في معظم الأوقات مسيطرا على نفسه سائرا حسب خطة
وحسب برامج وحسب استراتيجيه تنظيمية كالجسم الحي، كالعفوية الحية، له رأس
يوجه ويقود.. هناك تربية كما ذكر الرفيق، تربية يعطيها الحزب لأعضائه
فيختلف مستواهم عن الزمن الذي كانوا فيه خارج الحزب، تتغير شخصيتهم ولو
أنهم في اساس الشخصية يبقون هم هم، الا ان الشخصية تتفتح، وتكتشف كنوزها
وخبراتها وتتمرن وتتمرس وتنضج من التجربة.
هكذا يكون الحزب الثوري الصحيح السليم، يكون فاعلا، يكون خلاقا، أي لا يكتفي باعطاء
الافكار دائما، يربي الشخصية، وهذا مع الأسف ضعيف جدا في حزبنا، لا أقول
انه لا توجد بين البعثيين صفات مشتركة.. وشيء يمكن، بتجاوز كبير، ان
نسميه الشخصية البعثية، ولكن بصراحة، هذا ضعيف ودون المستوى المطلوب.
لم توجد فى الحزب تربية حزبية بالمعنى الصحيح، تربية للعقل والروح والأخلاق، تربية للعمل
والممارسة والنضال، والعمل في داخل المجتمع، في التعاون مع فئات الشعب.
هذه نواقص إذا كنا نطرحها بهذا الشكل الصريح، وقد طرحتها مرارا وخلال سنين، فلأني لم افقد
الأمل بان الحزب يستطيع ان يصحح، يستطيع ان يسيطر على نفسه، يستطيع ان
يمتلك الصورة الصحيحة عن مهمته التاريخية، عن واجباته، عما يجب ان يعمله
وان يكون عليه. وان الوقت لم يفت وانه اذا كنا مضطرين ومن واجبنا ان لا
نجد لأنفسنا الاعذار لئلا نتهاون ونتراخى. ايضا يجب بين حين وآخر ان ننظر
الى حركتنا نظرة تاريخية لا نظرة الافراد، ونظرة الحاضر، ونقيسها بعمر
الفرد ونقول: مضت ثلاثون سنة وما زلنا نعاني أمراضا ونواقص فادحة، هذا
شيء مفيد أن ننتبه الى نواقصنا ولكنه من المفيد والضروري أيضا أن نقول
بان ثلاثين سنة ليست شيثا كثيرا في حياة أمة وان الحزب يستطيع في كل
لحظة، ان يتدارك نفسه ويتدارك أخطاءه وان يدخل عنصر الإرادة بشكل قوي
لأنه لم يستعمل هذا العنصر كما يجب في الماضي، وان يدخل معركة مع ذاته
ليصحح ويسد النقص ويبني نفسه بناء جديا.. والوقت لم يفت، وعلى العكس كل
هذه الاخطاء والعثرات وحتى النكسات الكبيرة يمكن ان نحولها الى فوائد
ونفع كبير، عندما ندرسها ونحللها ونخضعها لقوانين العلم والتجربة الثورية
ونقارن تجربتنا مع تجارب حركات ثورية في العالم.
الوقت لم يفت، بل هناك فرصة كبيرة لان الساحة شبه فارغة، والأمة تنادي من يقويها في الظروف
الحالكة، والحزب رغم كل ما افتري عليه وكل الدعايات الاستعمارية
والرجعية، يبقى له رصيد في ضمير الأمة ويبقى متمتعا بثقة غير قليلة.
تكلمت عن البداية.. فلننتقل حتى لا يتجمد الحديث على نقطة. لننتقل الى ظروفنا الراهنة، ظروف
الأمة الراهنة، الى سؤال طرحه رفيق لكم هو سؤال يطرحه كل عربي اليوم: كيف
نرفض الحل السلمي رفضا عمليا وجديا وليس بالكلام واللسان فقط؟
هذا يضطرني ان اعود الى افكار الحزب والى الماضي ايضا..
.
رد: للبعث رصيد في ضمير الأمة
ايها الرفاق
الحزب وضع تصورا للثورة العربية لم يأخذ شكل البحث العلمي ولكنه واضح، ويمكن رؤيته
والرجوع اليه من بداية الحزب حتى الآن وخلال كل هذه الأعوام.. نظرة واحدة
تتكرر، نظرة واحدة تفرض نفسها، هذه النظرة لم يشارك الحزب فيها أخذ من
الحركات أو الأنظمة التقدمية ومما سمي بالثورات وبالأنظمة الثورية في
الوطن العربي، لذلك فان ما يسمى بالحل السلمي المستمد من قرار مجلس
الأمن، والذي جاء على اثر هزيمة حزيران، يمكن للبعثيين ان يقولوا بان
الذين قبلوا بالحل السلمي في قرار مجلس الأمن في عام 1967 كانوا قابلين
به قبل ذلك بعشر او خمسة عشر عاما. لم يقبلوه كشيء جديد، كانوا قابلين به
ضمنا لأنهم لم يأخذوا بالنظرية الثورية الصحيحة. النظرية الثورية الصحيحة
لخصها حزبنا بشيئين: الوحدة، والنضال المستمر من اجل التحرر والتحرير او: الوحدة والتحرير.
الأنظمة التي قبلت بالحل السلمي قبل ذلك، اي منذ اليوم الاول لنشوئها، قبلت بالقطرية ورفضت
النضال، رفضت نضال التحرير، رفضت ان تجعل قضية فلسطين هي مركز ومحور
نضالها، ولو ادعت احيانا غير ذلك بمجرد ادعاء.
الحزب خلال ثلاثين عاما الح على هذه الفكرة، الوحدة العربية بالنضال، وحدة النضال من اجل
تحقيق اهداف الثورة العربية، اهداف الأمة العربية في أن تحرر ارضها وتحرر
مصيرها من كل ضغط وسيطرة استعمارية، وتكون مالكة لإرادتها ومصيرها، وان
تنظم مجتمعها التنظيم السليم العادل الذي يضمن اكبر مردود واحسن انتاج
للوطن والمواطنين.. يبني الوطن ماديا ويبني المواطن معنويا وروحيا وفكريا..
اول تجربة للوحدة في هذا العصر دخلها الحزب وساهم فيها وعلق عليها الآمال الكبار لكي تكون
بداية للتحرير: لو رجعتم الى كتابات الحزب، تجدون هذا الكلام الصريح
الواضح: ان الوحدة تقود الى الثورة والثورة تقود الى الوحدة.
ماذا عملوا بتلك التجربة بدلا من ان تسير على أساس النضال المستمر، النضال الثوري لكي
ينتقل ويشمل بقية الاقطار في استراتيجية للوحدة من أجل التحرير، أي توحيد
النضال من اجل التحرير، كانت حقيقة تلك الوحدة التي استبعد الحزب من
التأثير فيه، ومن الفعل فيها، ووضع على الهامش منذ الايام الاولى، كيف
نفذت وكيف كان المخطط؟ المخطط انها وحدة مغلقة تقتصر على هذين القطرين
وتجعل هدفها التنمية لا التحرير.
التنمية بديلا عن التحرير، الهاء عن التحرير، ولكن الحزب كان دوما قبل هذه الوحدة بسنين،
وأثناءها وبعدها، يلح على أن كل تنمية لا تكون ضمن استراتيجية التحرير
ومعركة التحرير هي فاشلة، وعاجزة، وكل تنمية قطرية تبقى دون قوة العدو،
وقوة الاستعمار والصهيونية بكثير. التنمية خارج استراتيجة التحرير ومعركة
التحرير هي تسوية مع الاستعمار واسرائيل بصرف النظر عن النوايا.
التنمية لكي تكون مجدية يجب ان تكون تنمية للمعركة وليست بديلا عن المعركة، وتنمية في اطار
الوحدة، وعندها تكون مجدية، لأننا انطلقنا من هذه المسلمة بان ليس غير
مجموع أجزاء الوطن العربي بقادرة على ان تتكافأ مع متطلبات المعركة ضد
الاستعمار والصهيونية. القطر مهما يكن كبيرا وغنيا بالامكانيات يبقى دون
متطلبات المعركة..
الوحدة فقط والتي تتحقق بالنضال ووصفناها بانها الوحدة المقاتلة، الوحدة التي يتسلح فيها
الشعب، جماهير الشعب، الوحدة التي تبدأ بوحدة النضال، وتتم التنمية على
نطاق الوطن العربي الموحد او السائر نحو التوحيد ومن اجل دخول معركة
التحرير، هذه التنمية هي التي تبقى والتي تجدي وتتكافأ مع قوى الاعداء.
اما كل شيء آخر يذكر عن التنمية هو بين جهل وتضليل، والجهل داخل على الاقل في الماضي، الآن
امكانية الجهل محدودة جدا بعدما تكشف من هزيمة حزيران ونتائجها.
ولكن قبل عشرين سنة
وقبل خمس عشرة سنة، هذا النظام التقدمي الذي ظهر في مصر قبل تسع عشرة سنة
لم يكن نظاما عاديا ولم يكن بلا انجازات وبلا فوائد وبلا نواحي ايجابية،
انه حدث كبير في تاريخ العرب المعاصر نظرا لأهمية مصر ولكون هذا الانقلاب
الذي حدث في مصر أخرجها من طور الى طور. ولان التطور السياسي كان عاجزا
عن ادراك اهمية الوحدة بالمعنى الثوري، وعن ادراك عجز التنمية حتى ولو
كانت في قطر كبير كمصر، عجز التنمية عن ان تسابق الاستعمار في وسائله
وبمعداته ووسائل سيطرته، لذلك انتقل هذا النظام في المناسبات القومية
المصيرية من نكسة الى نكسة، من تعثر الى اخر، ليس كما يبالغ البعض فيسيء
الظن ويتهم ويلقي الشبهات.
بل لان النظرة كانت ناقصة، النظرة الاساسية لأولئك العسكريين الذين احدثوا الانقلاب في عام
1952 كانت ناقصة مقصرة عن إدراك طبيعة المرحلة العربية والعالمية. انهم
لم يفهموا الاستعمار وإمكانياته ولم يفهموا الصهيونية وارتباطها العضوي
بالاستعمار وبالتالي استمدادها اكبر قسط من قوتها من الاستعمار نفسه،
وخاصة لم يفهموا امكانيات الأمة العربية، لم يفهموا أن في الأمة العربية
امكانيات غزيرة وضخمة اذا ساروا في طريق التوحيد، التوحيد بالنضال ليس
بسياسة الدولة، لا وليس بوسائل المال والاجهزة وانما بالاعتماد على
الجماهير التي تصنع الوحدة بالقتال والنضال، وبالتالي تصنع التنمية من
خلال المعركة ومن اجل المعركة.
في الماضي ايها الرفاق، كان هناك جهل، عجز عن تصور علمي شامل لطبيعة الاستعمار ولحقيقة
الأمة العربية واستعدادها للثورة والنضال، اما اليوم فليس هناك جهل اليوم
عندما يقال بانه يمكن الوصول الى حل سلمي عادل وشريف وغير ذلك من هذه
الالفاظ، وانه من اجل السلام ينطلق الشعب للبناء والتعمير، لم يعد هذا
جهلا بل هو تضليل، لان نكسة حزيران لم تترك شيئا خفيا وشيئا غامضا، انها
أوضحت كل شيء. اليوم تقدم رشوة للانظمة لكي تخدع جماهير الشعب فترة من
الزمن، بالازدهار، بخلق المشاريع الاقتصادية، بتشغيل الناس، ولا تلبث هذه
الانظمة حتى تجد نفسها بعد وقت قصير مطوقة ومستعبدة وأسيرة من قبل
الاستعمار واسرائيل، وتجد انه لا مجال للبناء وللتعمير، طالما ان العدو
هو الذي يرسم ويخطط ويضع الحدود والسدود وهو قادر أن يمنع ويوقف كل حركة
بناء وكل تنمية. هذه التنمية اكثر من مشبوهة، هي تنمية مؤقتة لتمرير
الاستسلام.. إشغال الناس بالكسب الوهمي الخادع في الفترة الاولى حتى
يصحوا على العبودية.
الحزب اذن كان دوما
ضد هذه النظرة، ضد هذا التصور، النقص أين هو؟ النقص ان الحزب لم يمتلك كل
الامتلاك مصيره ومقدراته، لم يمتلك كما يريد إرادته ووسائله، حتى يحقق ما
هو قانع به، وحتى ينفذ بأمانة افكاره.
الحزب اذا بقي، اذا أمضى عشر سنوات أخرى تضاف الى الثلاثين سنة من عمره، اذا أمضى عشر سنوات
من اجل هذه الغاية فلن تكون سنوات ضائعة.
ان يسيطر على نفسه وعلى وسائله، ان تكون له قيادة اقرب من طبيعته ومن افكاره، وان تكون
متجاوبة، متفاعلة مع قواعده ومع جماهير الشعب، فانه يستطيع ان يحقق
اهدافه كلها.
المعركة الكبرى بالنسبة الى الحزب هي المعركة مع ذاته، ولكن هذا لا يعني ان نترك النضال
ونترك الامة في محنتها. اننا نصل الى السيطرة على انفسنا ووسائلنا
بمشاركة شعبنا معركته وبالمزيد من الممارسة النضالية بين الجماهير.
القيادة تخرج من النضال والممارسة لا من النقاش. تفرض نفسها بشجاعتها، بوضوحها، بنضالها، بسلوكيتها.
أيها الرفاق
اليوم وقع بصري على عنوان كبير في جريدة لوموند الفرنسية، لم اقرأ كل المقال، ولكن فهمت ما
هو المقصود منه، ثم ذهب فكري الى المقارنة مع حالتنا وأوضاعنا العربية.
عنوان المقال (من العظمة الى السعادة)، والمقصود فيه -لاني كنت قد قرأت شيئا بهذا المعنى
من قبل-، الكلام عن الرئيس الفرنسي الحالي، الذي خلف ديغول والذي يتبع
سياسة يصورها الكاتب إسعاد الشعب إسعاد المواطنين. سعادة بمعنى الرفاهية،
مقابل السياسة التي كان ينتهجها ديغول، وهي سياسة العظمة، سياسة الرسالة،
المصير الكبير، المصير التاريخي.
الدور الانساني لأمة
من الأمم.. تساءلت -ولو ان الفوارق كثيرة وكبيرة بين وضعنا وبين وضع دولة
من دول الغرب- هل مثل هذه السياسة التي تطبق الآن في مصر او يمنى بها
الشعب، او حتى من قبل، عند القبول بالحل السلمي وبمشروع روجرز..
كم اسهبوا في وصف
مغريات السلم، السلم والامن والبناء والانصراف للعمل والانتاج وسعادة
الأفراد والتعليم و شتى الصور الجذابة. قبل نكسة حزيران كان العرب وخاصة
النظام في مصر، والرئيس عبد الناصر بالذات هو ممثل هذا النظام وهذه
السياسة، سياسة العظمة، الدور الكبير، الدور الدولي، الدور التاريخي. ثم
يأتون الآن ويضربون على وتر السعادة، سعادة المواطنين.. امنهم.. رخاء معيشتهم.
فقلت في نفسي: حتى
هذا لا يصح علينا. بالنسبة لفرنسا نفسها هذا يمثل هبوطا من ديغول الى
بومبيدو، انه هبوط من الدور العالمي الى الانشغال بالداخل واهتمام بالربح
وتحسين المعيشة، ولكن هذا كلام صحيح. من بعد لعب الأدوار العالمية ربما
يتعب الشعب ويحن الى الراحة، الى الاستمتاع، الى الربح، هناك انتقال من
العظمة الى السعادة.
لكن بالنسبة الينا،
في ظروفنا هذه، لا بديل عن الدور التاريخي، لأنه اذا تخلينا عنه لا نهبط
الى السعادة والرخاء بل الى الفقر والشقاء، الى الذل والبؤس.
دور العظمة بالنسبة الى العرب هو دور النضال، والصمود، والاستمرار بمعركة التحرير.
لو كنا مستقلين، لو
لم نكن مطوقين، لو لم نكن مجزئين، لكان يصح ان نتعب فترة ونميل الى
الرخاء والراحة والعيش في ظل الأمن وتحسين المعاش والأحوال، ولكن العدو
سيتغلب علينا ويفرض شروطه اذا تخلينا عن دور النضال والصمود والمقاومة.
نتخلى عن لقمة الخبز لان هذه اللقمة لم يعد ممكنا كسبها الا بالنضال،
واللقمة التي تأتي بدون نضال هي رشوة مؤقتة لكي ينفذوا مآربهم في ترويض
هذا الشعب وفي فرض العبودية عليه.
وبعد هذا، أي
الفضائل ستمنع الاستعمار من نهب اراضينا، واسرائيل عن استغلال خيراتنا؟
ام ان بقاءهم رهن بان نبقى فقراء وضعفاء عائشين في الانحلال الخلقي وحكم
العصابات وحالة الانحطاط والجرائم والتناقضات التي تمنع الشعب من ان
يتوحد ويقاوم.
هذه ظاهرة لها علاقة بموضوعنا: ليس لنا خيار، ليس صحيحا ان الرخاء ممكن، وان الأمن ممكن، وان
التنمية ممكنة، هذا جهل وتضليل. صحيح انه لا تزال توجد كمية غير قليلة من
الجهل، لكن التضليل أوسع واكبر.
الحزب وضع تصورا للثورة العربية لم يأخذ شكل البحث العلمي ولكنه واضح، ويمكن رؤيته
والرجوع اليه من بداية الحزب حتى الآن وخلال كل هذه الأعوام.. نظرة واحدة
تتكرر، نظرة واحدة تفرض نفسها، هذه النظرة لم يشارك الحزب فيها أخذ من
الحركات أو الأنظمة التقدمية ومما سمي بالثورات وبالأنظمة الثورية في
الوطن العربي، لذلك فان ما يسمى بالحل السلمي المستمد من قرار مجلس
الأمن، والذي جاء على اثر هزيمة حزيران، يمكن للبعثيين ان يقولوا بان
الذين قبلوا بالحل السلمي في قرار مجلس الأمن في عام 1967 كانوا قابلين
به قبل ذلك بعشر او خمسة عشر عاما. لم يقبلوه كشيء جديد، كانوا قابلين به
ضمنا لأنهم لم يأخذوا بالنظرية الثورية الصحيحة. النظرية الثورية الصحيحة
لخصها حزبنا بشيئين: الوحدة، والنضال المستمر من اجل التحرر والتحرير او: الوحدة والتحرير.
الأنظمة التي قبلت بالحل السلمي قبل ذلك، اي منذ اليوم الاول لنشوئها، قبلت بالقطرية ورفضت
النضال، رفضت نضال التحرير، رفضت ان تجعل قضية فلسطين هي مركز ومحور
نضالها، ولو ادعت احيانا غير ذلك بمجرد ادعاء.
الحزب خلال ثلاثين عاما الح على هذه الفكرة، الوحدة العربية بالنضال، وحدة النضال من اجل
تحقيق اهداف الثورة العربية، اهداف الأمة العربية في أن تحرر ارضها وتحرر
مصيرها من كل ضغط وسيطرة استعمارية، وتكون مالكة لإرادتها ومصيرها، وان
تنظم مجتمعها التنظيم السليم العادل الذي يضمن اكبر مردود واحسن انتاج
للوطن والمواطنين.. يبني الوطن ماديا ويبني المواطن معنويا وروحيا وفكريا..
اول تجربة للوحدة في هذا العصر دخلها الحزب وساهم فيها وعلق عليها الآمال الكبار لكي تكون
بداية للتحرير: لو رجعتم الى كتابات الحزب، تجدون هذا الكلام الصريح
الواضح: ان الوحدة تقود الى الثورة والثورة تقود الى الوحدة.
ماذا عملوا بتلك التجربة بدلا من ان تسير على أساس النضال المستمر، النضال الثوري لكي
ينتقل ويشمل بقية الاقطار في استراتيجية للوحدة من أجل التحرير، أي توحيد
النضال من اجل التحرير، كانت حقيقة تلك الوحدة التي استبعد الحزب من
التأثير فيه، ومن الفعل فيها، ووضع على الهامش منذ الايام الاولى، كيف
نفذت وكيف كان المخطط؟ المخطط انها وحدة مغلقة تقتصر على هذين القطرين
وتجعل هدفها التنمية لا التحرير.
التنمية بديلا عن التحرير، الهاء عن التحرير، ولكن الحزب كان دوما قبل هذه الوحدة بسنين،
وأثناءها وبعدها، يلح على أن كل تنمية لا تكون ضمن استراتيجية التحرير
ومعركة التحرير هي فاشلة، وعاجزة، وكل تنمية قطرية تبقى دون قوة العدو،
وقوة الاستعمار والصهيونية بكثير. التنمية خارج استراتيجة التحرير ومعركة
التحرير هي تسوية مع الاستعمار واسرائيل بصرف النظر عن النوايا.
التنمية لكي تكون مجدية يجب ان تكون تنمية للمعركة وليست بديلا عن المعركة، وتنمية في اطار
الوحدة، وعندها تكون مجدية، لأننا انطلقنا من هذه المسلمة بان ليس غير
مجموع أجزاء الوطن العربي بقادرة على ان تتكافأ مع متطلبات المعركة ضد
الاستعمار والصهيونية. القطر مهما يكن كبيرا وغنيا بالامكانيات يبقى دون
متطلبات المعركة..
الوحدة فقط والتي تتحقق بالنضال ووصفناها بانها الوحدة المقاتلة، الوحدة التي يتسلح فيها
الشعب، جماهير الشعب، الوحدة التي تبدأ بوحدة النضال، وتتم التنمية على
نطاق الوطن العربي الموحد او السائر نحو التوحيد ومن اجل دخول معركة
التحرير، هذه التنمية هي التي تبقى والتي تجدي وتتكافأ مع قوى الاعداء.
اما كل شيء آخر يذكر عن التنمية هو بين جهل وتضليل، والجهل داخل على الاقل في الماضي، الآن
امكانية الجهل محدودة جدا بعدما تكشف من هزيمة حزيران ونتائجها.
ولكن قبل عشرين سنة
وقبل خمس عشرة سنة، هذا النظام التقدمي الذي ظهر في مصر قبل تسع عشرة سنة
لم يكن نظاما عاديا ولم يكن بلا انجازات وبلا فوائد وبلا نواحي ايجابية،
انه حدث كبير في تاريخ العرب المعاصر نظرا لأهمية مصر ولكون هذا الانقلاب
الذي حدث في مصر أخرجها من طور الى طور. ولان التطور السياسي كان عاجزا
عن ادراك اهمية الوحدة بالمعنى الثوري، وعن ادراك عجز التنمية حتى ولو
كانت في قطر كبير كمصر، عجز التنمية عن ان تسابق الاستعمار في وسائله
وبمعداته ووسائل سيطرته، لذلك انتقل هذا النظام في المناسبات القومية
المصيرية من نكسة الى نكسة، من تعثر الى اخر، ليس كما يبالغ البعض فيسيء
الظن ويتهم ويلقي الشبهات.
بل لان النظرة كانت ناقصة، النظرة الاساسية لأولئك العسكريين الذين احدثوا الانقلاب في عام
1952 كانت ناقصة مقصرة عن إدراك طبيعة المرحلة العربية والعالمية. انهم
لم يفهموا الاستعمار وإمكانياته ولم يفهموا الصهيونية وارتباطها العضوي
بالاستعمار وبالتالي استمدادها اكبر قسط من قوتها من الاستعمار نفسه،
وخاصة لم يفهموا امكانيات الأمة العربية، لم يفهموا أن في الأمة العربية
امكانيات غزيرة وضخمة اذا ساروا في طريق التوحيد، التوحيد بالنضال ليس
بسياسة الدولة، لا وليس بوسائل المال والاجهزة وانما بالاعتماد على
الجماهير التي تصنع الوحدة بالقتال والنضال، وبالتالي تصنع التنمية من
خلال المعركة ومن اجل المعركة.
في الماضي ايها الرفاق، كان هناك جهل، عجز عن تصور علمي شامل لطبيعة الاستعمار ولحقيقة
الأمة العربية واستعدادها للثورة والنضال، اما اليوم فليس هناك جهل اليوم
عندما يقال بانه يمكن الوصول الى حل سلمي عادل وشريف وغير ذلك من هذه
الالفاظ، وانه من اجل السلام ينطلق الشعب للبناء والتعمير، لم يعد هذا
جهلا بل هو تضليل، لان نكسة حزيران لم تترك شيئا خفيا وشيئا غامضا، انها
أوضحت كل شيء. اليوم تقدم رشوة للانظمة لكي تخدع جماهير الشعب فترة من
الزمن، بالازدهار، بخلق المشاريع الاقتصادية، بتشغيل الناس، ولا تلبث هذه
الانظمة حتى تجد نفسها بعد وقت قصير مطوقة ومستعبدة وأسيرة من قبل
الاستعمار واسرائيل، وتجد انه لا مجال للبناء وللتعمير، طالما ان العدو
هو الذي يرسم ويخطط ويضع الحدود والسدود وهو قادر أن يمنع ويوقف كل حركة
بناء وكل تنمية. هذه التنمية اكثر من مشبوهة، هي تنمية مؤقتة لتمرير
الاستسلام.. إشغال الناس بالكسب الوهمي الخادع في الفترة الاولى حتى
يصحوا على العبودية.
الحزب اذن كان دوما
ضد هذه النظرة، ضد هذا التصور، النقص أين هو؟ النقص ان الحزب لم يمتلك كل
الامتلاك مصيره ومقدراته، لم يمتلك كما يريد إرادته ووسائله، حتى يحقق ما
هو قانع به، وحتى ينفذ بأمانة افكاره.
الحزب اذا بقي، اذا أمضى عشر سنوات أخرى تضاف الى الثلاثين سنة من عمره، اذا أمضى عشر سنوات
من اجل هذه الغاية فلن تكون سنوات ضائعة.
ان يسيطر على نفسه وعلى وسائله، ان تكون له قيادة اقرب من طبيعته ومن افكاره، وان تكون
متجاوبة، متفاعلة مع قواعده ومع جماهير الشعب، فانه يستطيع ان يحقق
اهدافه كلها.
المعركة الكبرى بالنسبة الى الحزب هي المعركة مع ذاته، ولكن هذا لا يعني ان نترك النضال
ونترك الامة في محنتها. اننا نصل الى السيطرة على انفسنا ووسائلنا
بمشاركة شعبنا معركته وبالمزيد من الممارسة النضالية بين الجماهير.
القيادة تخرج من النضال والممارسة لا من النقاش. تفرض نفسها بشجاعتها، بوضوحها، بنضالها، بسلوكيتها.
أيها الرفاق
اليوم وقع بصري على عنوان كبير في جريدة لوموند الفرنسية، لم اقرأ كل المقال، ولكن فهمت ما
هو المقصود منه، ثم ذهب فكري الى المقارنة مع حالتنا وأوضاعنا العربية.
عنوان المقال (من العظمة الى السعادة)، والمقصود فيه -لاني كنت قد قرأت شيئا بهذا المعنى
من قبل-، الكلام عن الرئيس الفرنسي الحالي، الذي خلف ديغول والذي يتبع
سياسة يصورها الكاتب إسعاد الشعب إسعاد المواطنين. سعادة بمعنى الرفاهية،
مقابل السياسة التي كان ينتهجها ديغول، وهي سياسة العظمة، سياسة الرسالة،
المصير الكبير، المصير التاريخي.
الدور الانساني لأمة
من الأمم.. تساءلت -ولو ان الفوارق كثيرة وكبيرة بين وضعنا وبين وضع دولة
من دول الغرب- هل مثل هذه السياسة التي تطبق الآن في مصر او يمنى بها
الشعب، او حتى من قبل، عند القبول بالحل السلمي وبمشروع روجرز..
كم اسهبوا في وصف
مغريات السلم، السلم والامن والبناء والانصراف للعمل والانتاج وسعادة
الأفراد والتعليم و شتى الصور الجذابة. قبل نكسة حزيران كان العرب وخاصة
النظام في مصر، والرئيس عبد الناصر بالذات هو ممثل هذا النظام وهذه
السياسة، سياسة العظمة، الدور الكبير، الدور الدولي، الدور التاريخي. ثم
يأتون الآن ويضربون على وتر السعادة، سعادة المواطنين.. امنهم.. رخاء معيشتهم.
فقلت في نفسي: حتى
هذا لا يصح علينا. بالنسبة لفرنسا نفسها هذا يمثل هبوطا من ديغول الى
بومبيدو، انه هبوط من الدور العالمي الى الانشغال بالداخل واهتمام بالربح
وتحسين المعيشة، ولكن هذا كلام صحيح. من بعد لعب الأدوار العالمية ربما
يتعب الشعب ويحن الى الراحة، الى الاستمتاع، الى الربح، هناك انتقال من
العظمة الى السعادة.
لكن بالنسبة الينا،
في ظروفنا هذه، لا بديل عن الدور التاريخي، لأنه اذا تخلينا عنه لا نهبط
الى السعادة والرخاء بل الى الفقر والشقاء، الى الذل والبؤس.
دور العظمة بالنسبة الى العرب هو دور النضال، والصمود، والاستمرار بمعركة التحرير.
لو كنا مستقلين، لو
لم نكن مطوقين، لو لم نكن مجزئين، لكان يصح ان نتعب فترة ونميل الى
الرخاء والراحة والعيش في ظل الأمن وتحسين المعاش والأحوال، ولكن العدو
سيتغلب علينا ويفرض شروطه اذا تخلينا عن دور النضال والصمود والمقاومة.
نتخلى عن لقمة الخبز لان هذه اللقمة لم يعد ممكنا كسبها الا بالنضال،
واللقمة التي تأتي بدون نضال هي رشوة مؤقتة لكي ينفذوا مآربهم في ترويض
هذا الشعب وفي فرض العبودية عليه.
وبعد هذا، أي
الفضائل ستمنع الاستعمار من نهب اراضينا، واسرائيل عن استغلال خيراتنا؟
ام ان بقاءهم رهن بان نبقى فقراء وضعفاء عائشين في الانحلال الخلقي وحكم
العصابات وحالة الانحطاط والجرائم والتناقضات التي تمنع الشعب من ان
يتوحد ويقاوم.
هذه ظاهرة لها علاقة بموضوعنا: ليس لنا خيار، ليس صحيحا ان الرخاء ممكن، وان الأمن ممكن، وان
التنمية ممكنة، هذا جهل وتضليل. صحيح انه لا تزال توجد كمية غير قليلة من
الجهل، لكن التضليل أوسع واكبر.
مواضيع مماثلة
» النضال هو المعبر الصحيح عن الأمة المقاومة في فلسطين والعراق تعبير عن صمود الأمة
» الملامح الأساسية للإستراتيجية الإعلامية للبعث
» هنيئا للبعث في ظل ثورة تونس الشعبية
» العداء الأمريكي الصهيوفارسي "للبعث"، وكيفية مواجهته..!؟
» المناضل علي الريح السنهوري عضو القيادة القومية للبعث : يهنئ مصر وشعبها
» الملامح الأساسية للإستراتيجية الإعلامية للبعث
» هنيئا للبعث في ظل ثورة تونس الشعبية
» العداء الأمريكي الصهيوفارسي "للبعث"، وكيفية مواجهته..!؟
» المناضل علي الريح السنهوري عضو القيادة القومية للبعث : يهنئ مصر وشعبها
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى