ملتقى الفكر القومي
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ملتقى الفكر القومي
أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم, أنت لم تقم بتسجيل الدخول بعد! يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى

ملتقى الفكر القومي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أمريكا والكنعانيون الحمر سيرة الإبادة (2)

اذهب الى الأسفل

أمريكا والكنعانيون الحمر سيرة الإبادة (2) Empty أمريكا والكنعانيون الحمر سيرة الإبادة (2)

مُساهمة من طرف بشير الغزاوي الأحد يونيو 06, 2010 8:39 am

أمريكا والكنعانيون الحمر سيرة الإبادة (2)
موقع:جبهةالتحريرالعربية
الرفيق:بشيرالغزاوي


أضعاف الطعام الذي يقدم للهندي. ولم يكن ذلك حبا بأفريقيا أو غراما بالسود أو تمييزا عنصريا، بل كان سببه الأول والأخير أن الهنود أرخص من السمك، فهم في متناول اليد وكلفة استبدالهم أرخص من إطعامهم، أما استيراد العبد الأفريقي فدونه خرط المحيط.

* * *

في عام 1846 احتلت جيوش الولايات المتحدة كاليفورنيا. وتقول الإحصائيات إن عدد هنود كاليفورنيا في تلك السنة كان أقل من ربع ما كانوا علىه في عام 1769 ، ومع ذلك فخلال العشرين سنة الأولى من احتلال هذه الولاية أبيد 80 بالمائة من هذا "الربع" بسبب نظام السخرة. إن "ثروة الأمم" التي أعطت السلطة السياسية لأصحاب مناجم الذهب والمزارع الأسطورية سرعان ما شرعت استعباد الهنود كسلاح غير مباشر، لإبادتهم كما تم قبل ذلك في كولورادو وغيرها من ولايات الذهب. ولأنه لابد من يد عاملة رخيصة لاستثمار هذه الولاية الغنية، فقد نشطت تجارة خطف أطفال الهنود. ولطالما كتبت صحف تلك الفترة عن الشاحنات المحشوة بأطفال الهنود، وهي تهوي في الطرقات الريفية الخلفية إلي أسواق العبيد في سكرامنتو وسان فرانسيسكو. ومع نقص عدد النساء في سنوات الاحتلال الأولى فقد زاد الإقبال على خطف الفتيات اللواتي يقدمن خدمة مضاعفة: العمل والمتعة. وهذا ما أحال آباء هؤلاء المخطوفين إلي "عناصر شغب" تستأهل العقاب، وأدى كذلك إلي هرب معظم الأسر الهندية من منعزلاتها وأماكن سكنها التقليدية. أما شركات الخطف فقد تحولت إلي ميليشيات خيرية، إذ صار الخاطفون يقتلون الآباء ويشاركون الدولة في القضاء على عناصر الشغب، بينما يعتبرون خطف اليتامى وبيعهم مهمة إنسانية نبيلة وعملا أخلاقيا يتباهون به.

* * *

في أوائل 1850، وفي أول جلسة تشريعية لكاليفورنيا سنت الولاية قانون "حماية الهنود" الذي أضفى الشرعية على خطفهم واستعبادهم، واقتضت "حماية" الهنود بموجب الملحقات التي أضيفت إلي القانون في عام 1860 إجبار أكثر من عشرة آلاف هندي على أعمال السخرة. ولأن معظم الذين هربوا بأرواحهم وفراخهم إلى الغابات والجبال الوعرة صاروا يعيشون، في ما أصبح يسمي بأملاك الولايات المتحدة، فقد تحولوا بموجب قوانين الذين سرقوا بلادهم إلي "لصوص معتدين على أملاك الغير". ولم تمض سنة على صدور قانون "حماية الهنود" حتى ضاق حاكم الولاية بيتر بيرنت ذرعا بحمايتهم وعبر عن الحاجة إلي إبادة هذا "الجنس اللعين"، ووجه رسالة إلي المجلس التشريعي قال فيها "إن الرجل الأبيض الذي يعتبر الوقت ذهبا، والذي يعمل طول نهاره ليبني حياة سعيدة لا يستطيع أن يسهر طول الليل لمراقبة أملاكه.. ولم يعد أمامه من خيار سوي أن يعتمد على حرب إبادة. إن حرب الإبادة قد بدأت فعلا، ويجب الاستمرار فيها حتى ينقرض الجنس الهندي تماما".

* * *

ولم يكن الذين تم ترحيلهم جماعيا بأحسن حالا من الذين خضعوا لأعمال السخرة والاستعباد. فبعد أن سن الكونجرس في عام 1830 قانون ترحيل الهنود بالقوة من شرق المسيسبي إلي غربه، صار من حق كل مستوطن أن يطرد الهندي من بيته وأرضه وأن يقتله إذا لم يستجب لصوت العقل.

وكانت "رحلة الدموع" أولى ثمار هذا القانون. يومها حاصرت قوات من الجيش النظامي من لم يمت بعد من هنود خمسة شعوب هم الشيروكي والشوكتو والشيكسو والكريك والسيمينول وحشرتهم في معسكرات جهزت سلفا لتجميعهم في انتظار يومهم الموعود مع "الحضارة وطريقة حياتها". وما أن تأكد الجيش أنه لم يبق بيت ولا كوخ ولا خيمة ولا كهف ولا غابة ولا مقبرة تؤوي شبحا أحمر حتى سيقت بقايا هذه الشعوب بنسائها وأطفالها وشيبها وعجزتها مئات الأميال عبر ولاية تنسي، فكنتكي، فإلنويز، فيمزوري ليقطفها الصقيع والجوع والمرض والإجهاد روحا فروحا. وككل حفلات الموت التي ترعاها الحكومة فإن منظمي رحلة الدموع ساقوا الهنود عن قصد عبر مناطق يعرف القاصي والداني أنها كانت موبوءة بالكوليرا وغيرها من الأمراض، وأطعموا ضحاياهم من طحين فاسد ولحم منتن.

كان "العامل الطبيعي" في أوج نشاطه، فقد مات 15 بالمائة من مهجري شعب الشوكتو الأربعين ألفا، وكذلك كانت نسبة من تساقط من شعب الشيكاسو. أما شعبا الكريك والسيمينول فمات منهم أكثر من نصف مهجريهم، سقط معظمهم في الأيام الأولى لرحلة الدموع، بينما حصدت الحمى الصفراء منهم 3500 ضحية. ومات من مهجري شعب الشيروكي 55 بالمائة بالأمراض والجوع والإجهاد المضني الذي عانوه أثناء الترحيل القسري.

* * *

ويقول جيمس موني الذي استجوب عددا من الذين شاركوا في عملية الترحيل: "لقد تم نشر الجيش في معظم مناطق الشيروكي، وبدأ الجنود بتمشيط المدن والقرى والغابات والكهوف وضفاف الأنهار لصيد الناس وجمعهم في حصون. كان هؤلاء يرون بأعينهم كيف تأكل النيران بيوتهم وحقولهم وقراهم على يد مستوطنين يزحفون وراء الجنود للسرقة والنهب واغتصاب أملاكهم بما في ذلك نبش الفضة والذهب والأحجار الكريمة من باطن قبور أهلهم وأحبابهم".

وكان ذلك القرن قرن الترحيل القسري المنظم لكل الشعوب الهندية التي كانت تعيش شرق المسيسيبي. فما جري للشيروكي تكرر بصورة كلاسيكية مع كل الشعوب الهندية في الشمال الأمريكي، من حدود المكسيك جنوبا حتى القطب شمالا، ومن ماريلاند وفرجينيا شرقا حتى أورجون وواشنطن على المحيط الهادي، كلهم قضوا بنسب متفاوتة، بين شعوب اختفت تماما من الذاكرة البشرية وشعوب تتراوح نسبة الناجين منها بين 15.5 بالمائة مما كانت علىه بعد موجات الإبادة الأولى التي اشترك فيها الإسبان بشكل أساسي ومعهم بعض الشعوب الأوروبية الأخرى مثل البرتغال والفرنسيين والألمان. فبعد أقل من ثلاثين سنة مضت على "رحلة الدموع" سيق من تبقى من شعب النافاهو أيضا في هجرة قسرية مختلفة تعرف باسم "المسيرة الطويلة.

في البداية، تكاتفت جهود الجيش والمستوطنين لصيد "آخر النافاهو" وتجميع طرائدهم في معسكر خاص بأريزونا استعدادا لترحيلهم مشيا على الأقدام أو على ظهور الدواب التي نفق معظمها قبل الإقلاع. ثم تولت قوى الجيش ترحيلهم من أريزونا إلي نيومكسيكو، أكثر من أربعمائة كيلو متر في صقيع شتاء تلك الطبيعة الوحشية حيث مات منهم نصف أحيائهم بحسب أكثر التقديرات تواضعا. كذلك خسر شعب الشايين نصف بقاياه النادرة أثناء ترحيله بالقوة إلي مثواه الأخير في معسكر للموت البطيء في أوكلاهوما. وهناك تعرضوا لسياسة التجويع والحصار التي لم ترفع عنهم جزئيا إلا بعد التوقيع على اتفاقية تنازلوا فيها عن معظم أراضيهم.

* * *

سياسة التجويع والتدمير الشامل للبني الاقتصادية اللازمة للحياة كانت من أهم أسلحة الإبادة سواء في أثناء الترحيل القسري حيث كان الطعام قليلا وملوثا، أو في معسكرات المثوى الأخير حيث تكفلت سياسة التجويع غالبا بصياغة بنود اتفاقيات الهدنة. ويروي كينيث كارلي في "انتفاضة شعب سو1862" كيف تعرض هنود سانتي داكوتا المسالمون للتجويع القاتل، وكيف أن أندرو ميريك مفوض الدولة الاتحادية للإعاشة أجاب على احتجاجاتهم قائلا لزعيمهم تاويادوتا المعروف باسم الغراب الصغير: "اذهب أنت وشعبك فكلوا من حشيش الأرض وإذا شئتم فكلوا خراءكم". عندها لم يتمالك تاويادوتا أعصابه فهجم على المفوض وقتله ثم حشا فمه * وكان مهذبا * بالحشيش فقط. وهذا ما أدي إلي تعليق مشانق كل زعماء السانتي وإلى انتفاضة شعب السو الشهيرة عام 1862 ، أد ت سياسة التدمير الشامل لكل أسباب الحياة الهندية في العالم الجديد منذ اللحظة الأولى لشروق الشمس الإنجليزية على جزيرة روانوك التي استقبلهم أهلها عام 1580 بالترحاب فأقطعوهم ما شاءوا من الأرض وآووهم وكسوهم وأطعموهم الطعام على حبه وعلموهم أسباب البقاء في هذه الطبيعة الغريبة عنهم. ولكن ما أن اشتد ساعدهم قليلا حتى راحوا يخترعون الأعذار للقتل العشوائي ويتحينون الفرص لإتلاف المحاصيل وإحراق القرى والحقول وقطع أسباب الحياة عن الهنود عمدا.

وكان الهنود قد لاحظوا منذ الأيام الأولى أن المستعمرين كانوا ينبشون القبور لسرقة ما فيها أو لأكل جثثها الطازجة أحيانا

ثم تصاعدت خطة التجويع والتدمير الاقتصادي وازدادت تنظيما وتركيزا واستهدافا على مدى القرنين التاليين إلي أن أصبحت في القرن التاسع عشر سياسة رسمية معلنة للولايات المتحدة الأمريكية، كما يروي إدموند مورغن.

وكانت مستعمرة جيمستاون، وهي أول مستعمرة إنجليزية دائمة في شمال أمريكا، قد رسمت الملامح الأساسية لهذه السياسة في عام 1610، أي بعد أقل من ثلاث سنوات من تأسيسها عند مصب النهر الذي سمي باسم جلالة الملك جيمس. فتحت عنوان "حق الحرب" أعلنت هذه السياسة * كما نشر بيانها بعد ذلك في لندن عام 1622 * عن حق الإنجليزي باعتباره من "الشعب المختار" المتفوق بالوراثة في "أن يجتاح البلاد ويدمر أهلها".. "حيثما تحلو لنا مواطنهم الخصبة.. وأراضيهم التي سنستوطنها بعد تطهيرها من سكانها. إنها مجرد "أضرار هامشية" ترافق انتشار الحضارة وطريقة حياتها. فتحقيق هذه السياسة التوسعية يحتاج بالتأكيد إلى موجات متلاحقة من الترحيل القسري والمذابح الجماعية وما صار يعرف لاحقا بعقيدة "القدر المتجلي" التي تقول بحتمية وقدرية التوسع الأمريكي والزحف مع دوران الشمس حيثما تدور من الشرق إلي الغرب، وهي العقيدة التي استعارها هتلر بعد حوالي نصف قرن بكثير من التواضع والحذر وسماها "سياسة المجال الحيوي".

* * *

وكان مجلس فرجينيا قد أضاف إلي بيان "حق الحرب" بندا أساسيا لتزييت سياسة التوسع بمعاهدات سلام واتفاقيات تخدر الفرائس إلي أن يحين وقت صيدها، وتمنح شعب الله فرصة أفضل للمباغتة والتدمير. لم يكن لاتفاقيات السلام إلا هدف واحد هو خرق هذه الاتفاقيات. فحين يطمئن الهنود إلي أن الاتفاقية قد كفتهم شر القتال وهم الحذر والحراسة عندها "كما يقول مجلس دولة فرجينيا" "يتوجب علينا أن نغتنم الفرصة فنفاجئهم ونتلف محاصيلهم ونحرق حقولهم".

في غارة واحدة، كما يروي جيمس أكستل في كتابه "ما بعد كولومبس"، أتلف المستوطنون كمية من الذرة كافية لإطعام أربعة آلاف إنسان لمدة سنة كاملة". بينما يقدم فيليب بروس في كتابه عن "التاريخ الاقتصادي لفرجينيا" حسابا آخر لهذه الغارة فيقول إن الإتلاف طال ثلاثة آلاف فدان من الحقول. وفي أواخر الشتاء اعترف هنود إمبراطورية البوهاتن بأن عدد موتاهم تلك السنة أكبر من عدد كل الذين ماتوا خلال الخمس عشرة سنة الماضية التي "استضافوا" فيها الإنجليز بينهم. وكانت هذه الإمبراطورية من أكبر فيدراليات شواطئ الأطلسي الوسطى، تزيد مساحتها على مساحة الجزيرة البريطانية وينضوي تحت لوائها خمسة شعوب هندية وعدد كبير من القبائل الصغيرة لا يقل عددها عن عدد سكان إنجلترا في تلك الأيام، لكنها، بعد أقل من عشرين سنة من الوجود الاستعماري الإنجليزي "لم تعد أمة" كما أوضح المستوطن روبرت بينت في رسالة شماتة كتبها إلى أخيه إدوارد في 9 يونيو/ حزيران 1623 . عشرون سنة وتحولت هذه الإمبراطورية العظيمة إلي ما هو "أقل من أمة".

واستمرت إبادة البوهاتن بانتظام ودأب وتصميم، إذا كان يقتل منهم المئات في مناوشة بعد مناوشة، ويقتل المئات بالتسميم الجماعي أو في طراد كلاب الصيد الدموية وكلاب الحراسة التي كانت تتعقبهم.

وكانت دعوات المستعمرين إلى السلام لا تتم إلا حين الحاجة إلى الاستجمام والراحة وتحضير السموم.

وقبل أن ينتصف القرن أسر خليفة وهاتن المعروف باسم أويشنكنو وألقي به في زريبة صغيرة حيث عومل كما تعامل البهائم. ولحسن حظه فقد أطلق مستوطن عليه النار من خلفه فقتله وأنهي عذابه بعد أسبوع من أسره. وكان زعيم البوهاتن يومها عجوزا ضريرا عاجزا عن المشي.

بعد حوالي قرن من "انتشار هذه الحضارة وطريقة حياتها" شاءت معجزات "العناية الإلهية" أن لا تبقي من سكان إمبراطورية الَوهاتن أكثر من 600 إنسان حي، وأن تجعل بلادهم "مغطاة بالهياكل والجثث التي لم تجد أحدا يدفنها".

ولم تكن إمبراطورية بوهاتن فريدة في مصيرها، فقد تبنت يومها كل المستعمرات الإنجليزية خطة مشتركة أطلقها وليم بيركلي حاكم فرجينيا المتهم من قبل منافسه ناتنيال بيكون بسياسته الممالئة للهنود! وتقتضي الخطة التي وضعت حدا للجدال حول أولوية الإبادة أم الاستعباد بتنظيم حملات إبادة لكل البالغين الذكور على أن يتم تمويل هذه الحملات من عائدات بيع الأطفال والنساء في أسواق العبيد0

* * *

وأعيد سيناريو العمل بالسخرة والتجويع الإجباري والترحيل الجماعي وتحطيم المعنويات مع كل مرحلة من مراحل التوسع. ففي عام 1870، كما يروي ريتشارد درينون في كتابه التحليلي لعنصرية الزنابير "حارس معسكرات الإبادة "

اجتاح الجنرال جورج كلارك مناطق هندية تابعة لما صار يعرف اليوم بولايات أوهايو وإنديانا وإلينريز، وكتب في تقديره للأضرار "الهامشية" الأولية " إن أكثر من خمسمائة هكتار من حقول الذرة تم إتلافها، إضافة إلي مزارع كل ما يمكن أكله من خضار ومزروعات حول مدينتي شيليكوت وبيكا الهنديتين التابعتين لشعب الشاوني" وبيكا . وبعد خمسة عشر عاما كتب الجنرال أنتوني واين المعروف لدي أصدقائه وأعدائه باسم أنتوني المسعور "لعله جد الممثل الكاوبوي جون واين" بعد حملة على شعب الشاوني وحلفائه: "أمضينا ثلاثة أيام بلياليها على ضفاف المومي.. ونحن ندمر البيوت والقرى ونتلف حقول الذرة الممتدة إلى نهاية الأفق. وفي بعض الأحيان أحرقنا حقولا للذرة كانت تمتد أكثر من خمسين ميلا "حوالي 80 كلم" على ضفة النهر".

* * *

وعلى خطى المستعمرين الأوائل الذين أبادوا شعب البيكو فشعب الناراغنست وغيرهما من شعوب المنطقة التي أطلقوا عل ي ها اسم "إنجلترا الجديدة" قام مستعمرو كارولينا بإبادة شعب التوسكارورا أحد أكبر شعوب المنطقة وأكثرها قوة ورخاء. وتحت الأعذار الكثيرة التي يتقدمها عذر أن الهنود اعتدوا على المستعمرين المسالمين فلم يسمحوا لهم بالاستيطان السلمي والتوسع السلمي والنهب السلمي، تم إتلاف محاصيل التوسكارورا وحقولهم ومزارعهم وتعريضهم للجوع والاقتلاع وقضم حياة أبنائهم مناوشة بعد مناوشة. غير أن هذا التدمير المنظم بلغ ذروته ما بين 1711 و 1713 عندما أقنع المستعمرون شعوب الموسكيجي والشيروكي والكاتاوباس بأنهم أصدقاء مسالمون، وأن العدو الذي يهدد الحضارة والحياة هو شعب التوسكارورا القوي، وأن من مصلحة الإنجليز وكل الشعوب الهندية "المتحضرة" أن يتحالفوا مع الإنجليز ويضعوا حدا لعدوانه وخطره. هكذا بدأ "التحالف" بسلسلة من الغارات على قرى ومدن التوسكارورا وعلى عاصمته نيهوروكا فأحرقها وأباد أهلها وشرد الكثيرين منهم إلي الشمال حيث التحقوا بالأمم الخمس. غير أنه لم تمض سنوات أربع حتى دارت الدائرة على "الحلفاء" الذي تجردوا سريعا من لقب "التحضر" ولم يكن مصيرهم بأحس ن من مصير إخوانهم "الوحوش".

* * *

كان الغزاة الأوائل يسمون بالحجاج أو القديسين. وما يزال التاريخ الأمريكي إلي الآن يضفي عليهم قداسة طوباوية ويعتبرهم أول نموذج للاستثناء الأمريكي الذي فضله الله على العالمين وأورثه ما أورث بني إسرائيل من قبل، وجعل العهد الذي عقدوه مع الله على متن سفينتهم الأسطورية Mayflower من اللحظات النادرة الخالدة في التاريخ الإنساني كما يقول الرئيس الأمريكي جون أدامس، فعهدهم مع الله جب عهد الإسرائيليين القدامى، وتأسيس مستعمرتهم على صخرة ليموث ضاهي تأسيس الكنيسة على صخرة بطرس.

قصة هؤلاء "الحجاج" هي الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأمريكي ومركزيته الإنجليزية العنصرية . وما يزال كل بيت أمريكي يحتفل سنويا في "عيد الشكر" بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و"خروجهم" من أرضه، و"تيههم" في البر، و"عهدهم" الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع الله، ووصولهم في النهاية إلى "أرض الميعاد".

ويعتبر هذا العيد الطقسي الذي يبجله الأمريكيون وطنيا ودينيا أكثر من أي عيد آخر، بما في ذلك عيد الاستقلال، من أكثر أعياد أمريكا قدسية.. في هذا العشاء الطقسي الذي يذبحون فيه سنويا بين عشرين وثلاثين مليون "تركي" شكرا لله الذي وقف منذ اللحظات الأولى لاستعمار أمريكا إلي جانب شعبه يستعيد الأمريكيون أسطورة تاريخهم بكل ما يعنيه مرسيا إلياد بطقسية الاحتفال بالأسطورة. فهو طقس يتضمن تقديس فعل الاستعمار الاستيطاني والتأكيد على التفوق الطبيعي والأخلاقي للمستعمرين، وهو تأكيد على صدق الأسطورة وحياتها المتجددة، وهو احتفال برعاية الله لكل عناصر أسطورة الولادة المقدسة للتاريخ الأمريكي، وهو من خلال هذا الطقس الاحتفالي * يؤكد على التسامي بالأسطورة ومعايشتها كدين.

* * *

وتقول الأسطورة إن الحجاج اختاروا بليموث لجمالها وجداول مياهها العذبة وخيرها الوفير وحقولها الخصبة، كما تعترف بأن هنود البيكو أنقذوهم من الموت جوعا وأنهم لهذا أولموا لهم ودعوهم للاحتفال معهم فيما صار يعرف بعد أكثر من قرنين "عام 1890" بعيد الشكر. على الضفة الأخرى لهذه الأسطورة يعتقد الهنود الذين قدموا للحجاج ما لم يقدمه الأنصار للمهاجرين أن الجحود هو المعنى الحقيقي لعيد الشكر، لا لأن العيد كان حصادهم الذي كانت تحتفل به الشعوب الهندية الشرقية سنويا، ولا لأن طعام ذلك العيد كان من صنع أيديهم ومن حلال مالهم وحقولهم وديكة غاباتهم، وإنما لأنهم عضوا اليد التي أطعمتهم وسقتهم وانتشلتهم من الموت المحقق.

كانت سياسة الإذلال والترويع التي انتهجها الحجاج ومن قبلهم مستعمرو فرجينيا أفضل تعبير عن شكرهم للضيافة الهندية. فكثيرا ما كانوا يقتلون الهنود الذين يحملون إليهم الطعام والهدايا، بل كانوا يقدمون لهم المغريات الكثيرة لزيارتهم من أجل أن يكمنوا لهم ويقتلوهم. وكانت الوسيلة المحببة لاستدراجهم واستخراج ذهبهم خطف أولادهم لما لاحظوه من تراحم الأسرة الهندية فيما بينها وتكافلها ورعايتها لأطفالها.

لقد أعطى هنود البيكو للحجاج ما أعطاه قبلهم هنود البوهاتن لمستعمري فرجينيا وعلموهم كيف يزرعون الأرض وكيف يعتمدون على خيراتها. فإذا كان للحجاج أن يشكروا أحدا فليشكروا هنود البيكو، أو ليشكروا سكوانتو على الأقل، هذا الطفل الهندي الذي خطفه نخاس إنجليزي صغيرا فاستعبده في بريطانيا ثم باعه في ملقا، ثم هرب من العبودية مرتين فعاش في بريطانيا وإسبانيا قبل أن يبدأ رحلة العودة إلي وطنه ويقطع المحيط الأطلسي ذهابا وإيابا ست مرات لاقي فيها من الأهوال ما يجعل من أوديسة أوليس سباحة في بركة البيت. لقد عاد سكوانتو إلي َليموث في عام 1619 ليجد أن "العامل الطبيعي" قد أباد كل قبيلته. ثم إنه عمل مترجما متطوعا بين الحجاج وبين الهنود. وتكشف قصة سكوانتو مع الحجاج التفوق الأخلاقي والعقلي والحضاري للهنود.

وتروي عشرات الكتب التي أرخت لهذا الفتى الأسطورة وعشرات الأفلام وقصص التبشير التي استلهمت سيرة حياته وجنت منها الملايين كيف انتشل سكوانتو أسطورة أمريكا من الموت في شتائها الأول حين أحضر للحجاج الطعام وعلمهم كيف يزرعون الذرة واليقطين وأنواع الحبوب والقرعيات، وكيف يصطادون السمك ويسمدون الأرض ببعض أنواعه، بل وكيف يغتسلون ويتخلصون من قذارتهم وروائحهم الكريهة عبثا. وتتحدث فيني زاينر في كتابها عن سكوانتو وروبرت لويب في كتابه عن "حقيقة الحجاج" وفرانسيس جننغز في "اجتياح أمريكا" كيف إن سكوانتو لاحظ أثناء حياته في أسبانيا وإنجلترا أن الأوروبيين يكرهون النظافة وقلما يغتسلون أو يبدلون ثيابهم وكيف إنه تقزز من روائح الحجاج الكريهة وحاول عبثا إقناعهم بالاغتسال والنظافة.

لقد أتى "العامل الطبيعي" على حياة سكوانتو سريعا فألحقه الجدري بأهله الهنود وإن كان الحاكم وليم برادفورد * وهو من أبرز من أبرموا العهد مع الله على متن سفينة الحجاج ماي فلور * قد تمني له مآلا أرفع من مآل أهله وثني كنعان الجديدة فرثاه ودعا له بأن تصعد روحه إلي الرفيق الإنجليزي الأعلى في السماء وقد كانت تلك الصلاة عمليا آخر عيد للشكر شهدته أمريكا.

بعد حوالي 15 سنة على مصرع سكوانتو أتم الحجاج المرحلة الأولي من إبادة هنود البيكو وحلفائهم بالقتل المباشر وبتدمير كل أسباب حياتهم الاقتصادية، لكن جون مايس الذي أسس قواعد مستعمرة كونتيكت وكتب "التاريخ الوجيز لحرب البيكو" يرى أن القتل المباشر كان السلاح المفضل لدي الحجاج، وأن حرق الحقول والمزارع كان عاملا إضافيا. كان مايسون كغيره من أنبياء المستعمرات يعتقد أنه رسول العناية الإلهية إلى "أرض كنعان الفارغة" ولطالما أكد على أن الله هو الذي وعدهم بأرض كنعان التي لا يوجد فيها إلا القليل من البشر.

وهكذا لم تمض ستون سنة على ولادة الأسطورة الأمريكية حتى قضي الحجاج ونسلهم المقدس على الكنعانيين هنود البيكو والنيانتك عبر حرب تدمير منظمة شاملة للقرى والمدن والحقول وكل ما يعتبر ضروريا لاستمرار الحياة.

في عام 1970 سألت وزارة التجارة في ولاية ماساشوستس بقايا هنود الوامبانوج أن يختاروا منهم خطيبا للمشاركة في الاحتفال بالذكري 350 لعيد الشكر، ولكن بشرط أن تعرض الكلمة على "زنابير الوزارة" قبل قراءتها. واختير فرانك جيمس لهذه المهمة، فكتب كلمته وأرسلها إليهم.

وبالطبع لم يسمحوا له بالمشاركة. وكان مما كتبه هذا الهندي: "هذا يوم عيد لكم وحدكم. إنه ليس عيدي. إنني أنظر إلي ما حدث لشعبي بقلب منفطر، فبعد يومين أو ثلاثة أيام من وصول الحجاج إلي "كايب كود" بدأوا بسرقة قبور أجدادي ونهب ما لديهم من ذرة وقمح وحبوب. لقد شاهد القائد الهندي العظيم ماساسيوت زعيم شعب وامبانوج ما فعله الحجاج، ومع ذلك فإنه هو وشعبه جميعا رحبوا بالمستوطنين وأبدوا لهم خالص الود.. إنه لم يكن يعرف أنهم بعد أقل من خمسين سنة سوف يبيدون شعب الوامبانوغ وغيره من الشعوب الهندية المجاورة وسوف يقتلونهم جميعا بالبنادق أو بالأمراض. نعم لقد أبادوا طريقتنا في الحياة وقضوا على لغتنا.. فلم يبق منا إلا القليل من الأحياء. وإنني حزين. وهذا ليس عيدي".

بشير الغزاوي
عضو فعال
عضو فعال

عدد الرسائل : 622
العمر : 84
تاريخ التسجيل : 28/03/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى